المصري أفندي.. شخصية مصرية حاربت الفساد والاستعمار بالقرن الـ20

ألكسندر هاكوب صاروخان وشخصية المصري أفندي (مواقع التواصل)

القاهرة- لم يكن الرسام الإنجليزي ستروب، على دراية بأن رسمته الساخرة في صحيفة الديلي إكسبريس البريطانية، ستمهد لخروج "المصري أفندي" أحد أشهر الشخصيات الكاريكاتيرية منذ ثلاثينيات القرن الـ20 بمصر وتحديدا عام 1932، حيث رسم ستروب صورة الرجل البدين ضئيل الحجم الذي يرتدي قبعة رعاة البقر المعروفة وفي يده مظلة.

رسمة ستروب جذبت انتباه الأستاذ محمد التابعي، أحد رواد الصحافة المصرية الأوائل والسيدة فاطمة اليوسف المعروفة بـ"روز اليوسف" صاحبة مجلة روز اليوسف أحد أشهر الإصدارات الصحفية وقتذاك، والتي كانت تسعى مع التابعي لإدخال الكاريكاتير كوسيلة لمجاراة صحيفة الكشكول التي كانت تُصدّر رسوم الكاريكاتير لمهاجمة السياسيين وقتها مثل مهاجمة حزب الوفد وسعد زغلول خلال العشرينيات.

ولكي نتبين من الدوافع وراء اتجاهات التابعي واليوسف تقول فاطمة في كتابها "ذكريات": "كانت (الكشكول) ترسم شخصية جحا، وأردنا أن تكون لنا شخصية أخرى، وكانت لدينا مجموعة كاريكاتير من الصحف الأجنبية، وجدنا فيها أنا والأستاذ التابعي شخصية رجل يشبه "المصري أفندي" يلبس قبعة ويحمل في يده مظلة. واقتبسنا شخصيته بعد أن ألبسناه الطربوش ووضعنا في يده المسبحة وبدأ "صاروخان" يرسم "المصري أفندي".

ومن هنا قررت روز اليوسف ومع التطور العالمي لاستخدام الكاريكاتير في الصحف استخدامه لتنصهر شخصية "المصري أفندي" في صورة مصرية صرفة على يد فنان الكاريكاتير إلكسندر صاروخان، والذي وضع حجر الأساس للرسمة بإيعاز من اليوسف والتابعي، بعد تمصير رسمة ستروب، ليستبدل صاروخان بقبعة رعاة البقر الطربوش المصري الشهير وقتذاك، ويجعله يرتدي نظارة ليجعل شكله مفعمًا بمصريته، بجانب المسبحة التي في يديه كبديل للمظلة.

رسام المصري أفندي

يذكر أن صاروخان يعد من رواد فن الكاريكاتير بمصر، حيث كان لاجئا أرمينيا هرب من الصراع مع الدولة العثمانية أوائل القرن الـ20 حيث استقر في فيينا ومنها إلى مصر التي كانت تحتضن الكثير من اللاجئين الأرمن.

وتوهجت إبداعات "صاروخان" في الصحف والمجلات المصرية منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، على غرار مجلة السينما الأرمينية عام 1925. ثم يلتقي صاروخان، رئيس تحرير روز اليوسف التابعي، عام 1927 بعد نزوله لمصر ويبتكر شخصية المصري أفندي عام 1932.

ومع إقامة صاروخان في مصر وتوهج نشاطه في الكاريكاتير منحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الجنسية المصرية سنة 1955، واعترف به كرائد لفن الكاريكاتير السياسي خصوصا مع إسهاماته.

صدى وردود فعل

وتداخلت شخصية "المصري أفندي" مع الحركة السياسية في مصر، وأشعلت أزمات عدة، فعلى سبيل المثال، كان قد رسم صاروخان "المصري أفندي"، يُشوى حيًّا من قبل حكومة إسماعيل صدقي باشا، للدلالة على سوء الإدارة وللإيحاء بفكرة غياب العدالة الاجتماعية، الأمر الذي أثار غضب الحكومة وقتها وأمر صدقي باشا بالقبض على صاروخان واستدعائه أمام جهات التحقيق.

إلا أن صاروخان استطاع الخروج بعد أن أوحى للمحقق أنه يقصد أن الحكومة تطفئ نار المصري أفندي، مؤكدا وقتها أن "المصري أفندي"، ليست من بنات أفكاره ولكنها ملكٌ لفاطمة اليوسف صاحبة الصحيفة.

ولم تقتصر مشاكسات صاروخان وروز اليوسف مع السلطة وقتها عند هذا الحد حسبما جاء في كتاب "روز اليوسف.. والمصري أفندي وصف مصر بالكاريكاتير"، للكاتب الصحفي الراحل رشاد كمال، حيث كان الكاريكاتير بمثابة سوط على ظهر أي مسؤول ينتقده، الأمر الذي يظهر عقب حكومة إسماعيل صدقي وتحديدا خلال فترة عبد الفتاح يحيى، رئيس الوزراء الراحل، الذي أرسل لصاروخان موظفا كبيرا يهدده بالسجن إذا استمر برسمه رث الملابس.

ويرجع غضب يحيى وقتها إلى أن صاروخان رسمه واقفا أمام المصري أفندي يقيس بدله ويسأله: "إيه (ما) رأيك يا مصري أفندي في البدلة الجديدة؟ مش برضه (أليست) محبوكة زي (مثل) بدلة الوزارة، ويرد عليه المصري أفندي: إن جيت للحق (إن أردت الحق).. الأحسن لك تسيب الاتنين" (تترك الاثنين).

محطات فارقة

واستمرت شخصية "المصري أفندي" بمجلة روز اليوسف، حتى اكتسبت شهرتها بشكل كبير، ولعل أبرز ما أكسبها خصوصية كبيرة هو تعبيرها عن حال الشارع بصورة ساخرة وبسيطة عوضا عن الإسقاطات السياسية ضد الاحتلال والتعبير عن كفاح المصريين ضده، الأمر الذي زاد من شهرة الشخصية حتى بعد انتقال صاروخان للعمل بعد ذلك في مجلة آخر ساعة مع محمد التابعي، بعد أن أسسها الأخير على خلفية خلاف مع روز اليوسف ليأخذ صاروخان معه بالمجلة عام 1934.

إلا أن شخصية المصري أفندي، ظلت في روز اليوسف ولم يستطع أن يستخدمها صاروخان نظرا لوجود محضر قديم تضمن اعترافا من صاروخان بأن روز اليوسف صاحبة الشخصية.

ووفقا للكاتب والمؤلف رشاد كامل في كتابه "روز اليوسف والمصري أفندي.. وصف مصر بالكاريكاتير"، فقد أدت شهرة شخصية المصري أفندي خلال الخمسينيات إلى أن قامت مجلة روز اليوسف، بتخصيص صفحات مستقلة داخل المجلة على شكل جريدة اسمها المصري أفندي، وهي جريدة سياسية أسبوعية مصورة، كانت ترفع شعار "الشعب للشعب وبالشعب"، وكذلك ظهر على صفحات روز اليوسف باب جديد يحرره المصري أفندي بالزجل اسمه "على الربابة"، حيث يمسك بالربابة ويقول زجلا يخص شخصية أو قضية أو يوجه خطابًا.

وبعد انفصال التابعي وصاروخان عن روز اليوسف ظهرت مجلة خاصة باسم المصري أفندي يحررها التابعي وعلي أمين، واستمرت شخصية المصري أفندي بعد أن تركها صاروخان بريشة رسامي الكاريكاتير رخا وزهدي وطوغان، فبحسب كتاب "حكايات في الفكاهة والكاريكاتير" للمؤلف أحمد عبد النعيم، ذكر فيه: "وقد استخدم المصري أفندي فترة طويلة على يد الفنانين زهدي العدوي، وأحمد ثابت طوغان، وعبد السميع عبد الله، ومحمد عبد المنعم رخا، الذي زامل صاروخان في أخبار اليوم فيما بعد لتستمر شخصية المصري أفندي لفترة طويلة كتعبير لرجل الشارع".

ولم تقتصر شهرة المصري أفندي على الصحف والمجلات حيث خرجت كذلك لمجال السينما والتلفزيون ليعرض فيلم المصري أفندي بطولة حسين صدقي ومديحة يسري وإسماعيل ياسين عام 1949.

كاريكاتير شخصية المصري أفندي (مواقع التواصل)

اختفاء المصري أفندي

"ارتبط القرن الـ20 برسوم الكاريكاتير بشكل كبير، حيث كانت تعد هذه الحقبة بمثابة الحقبة الذهبية لهذا النوع من الفن، نظرا لعدم وجود الراديو والتلفزيون والسينما ودخول هذه العناصر الترفيهية بعد ذلك"، يقول إبراهيم السيد، فنان تشكيلي في تصريحات صحفية مفسرًا تنامي الاهتمام بالكاريكاتير في مصر خلال تلك الفترة.

ويؤكد أن الكاريكاتير الذي كان يقدمه صاروخان وغيره من رسامي الكاريكاتير، كان يعد منتجا ثقافيا به صور وكلام ونكت ومواقف سياسية، وهو ما كان يعتبر مصدرا وحيدا للترفيه خلال هذه الفترة على نقيض الفترة الحالية التي انتشر فيها جميع أنواع الترفيه المرئي والمسموع، وهو ما يفسر الشهرة والخصوصية التي حظيت بها شخصية مثل المصري أفندي خصوصًا والكاريكاتير عموما.

ويرى السيد أن شخصية المصري أفندي كانت تفسر الحالة السياسية والاجتماعية التي كانت تشهدها مصر منذ منتصف الثلاثينيات وحتى بعد هذه الفترة التي كانت تشهد تحولات وتغيرات في السياسة المصرية، الأمر الذي كان يتم التعبير عنه بصورة مرسومة ساخرة مما يجعل الكاريكاتير بمثابة كتاب تاريخي مفتوح لما كان يتضمنه من أحداث.

وحسب الكاتب الراحل رشاد كامل في كتابه، فبالرغم من أنه كان للمصري أفندي حضور منذ بداية الثلاثينيات ومرورا بالأربعينيات والخمسينيات، فإن الشخصية اختفت وتوارت عن الأنظار، حيث كان آخر من يرسم المصري أفندي فنان الكاريكاتير المصري المعروف باسم عبد السميع عبد الله، الذي رسم الشخصية بمجلة روز اليوسف، بعد صاروخان ورخا بطلب من إحسان عبد القدوس.

المصدر : الجزيرة