آمنة آل ثاني: متحف قطر الوطني يروي ماضي البلاد وحاضرها

كيف بدأت قصة إنشاء متحف قطر الوطني الجديد؟
لكل قصة بداية، وبداية قصة متحف قطر الوطني الجديد تعود إلى عام 2005، هذا العام الذي تأسست فيه متاحف قطر، ومعها انطلقت دولة قطر في كتابة أول فصل من فصول ازدهارها الثقافي الذي تعيشه الآن.

في هذه البدايات، لم يكن المشهد الثقافي في قطر بالقوة التي هو عليها الآن، وحين قامت متاحف قطر في تغييره، قررت أن تحول قطر إلى عاصمة للثقافة والفنون والإبداع في المنطقة، وفقا لخطة محكمة ومدروسة، وكان على رأس أولوياتها إنشاء المتاحف ومراكز الإبداع.

وحينها عزمت متاحف قطر على إعادة بناء متحف قطر الوطني؛ باعتباره الممثل الأول لتاريخ الدولة وهويتها، لتكسبه حلة تعكس طموحاتها وتوجهها الجديد المتمثل في الجمع بين الأصالة والمعاصرة في آن واحد.

مرّ المتحف بمحطات عدة، بدأت مع إعلان متاحف قطر خطتها لتطوير المتحف عام 2010، ثم اختيار المصمم العالمي المعروف جان نوفيل لتصميم المتحف في 2011، ومن ثم الاتفاق على شكل التصميم النهائي الملهم خارجيا وداخليا، مع الإبقاء على القصر القديم كنواة للمتحف الجديد، بعدها بعام بدأت الأعمال الهندسية والبناء، ثم توالت المراحل وصولا إلى تجهيزات المتحف المتطورة للغاية وبناء محتواه الذي تم تصميمه بعد تخطيط فائق وتنظيم العديد من ورش العمل المجتمعية لضمان تلبية المتحف لاحتياجات أفراد المجتمع.

واليوم، وبعد أعوام من التحضير والتخطيط والتنفيذ يصل المتحف إلى محطته الأخيرة بافتتاحه رسميا، لتفي متاحف قطر بوعدها وتقدم للشعب القطري هذا الصرح التاريخي الحافظ لذكريات أجدادهم في حلة تدعو للفخر.

هناك من يستغرب الشكل النهائي لمتحف قطر الوطني؛ فمن أين جاء هذا التصميم؟
هذا التصميم مستلهم من "وردة الصحراء"، أو ما نطلق عليه في قطر "قحوف الرمل". وهذه الوردة الموجودة في بلادنا لها قصة عجيبة؛ فهي ليست وردة نباتية كباقي الورود والزهور التي نعرفها، بل هي عبارة عن بلورات رملية تكوّن تشكيلات زخرفية وفنية بديعة على شكل الزهور تحت الرمال.

وهي مثل بصمة الإنسان لا توجد واحدة تشبه الأخرى، ويعد ظهورها في المكان دليلا على وجود مياه جوفية به، حيث تتكون بسبب تفاعلات بين المعادن المتواجدة في المياه. وابتكر نوفيل فكرة الأقراص المتشابكة التي يتميز بها تصميم المتحف ليحاكي هذه الزهرة، وهي -حسب وصفه- "هندسة طبيعية ملهمة"، وحلت لنا الزهرة تحديا كان يتمثل في اختيار تصميم يعكس رسالة المتحف الرامية إلى دعم الإبداع والتراث.

فهذه الزهرة كانت خير تجسيد لها، لأنها تتشكل في الصحراء وبفعل الماء تماما كحياة القطريين المرتبطة بالبحر والصحراء، إلى جانب أنها تعد تحفة فنية بديعة في شكلها، مما يجعلها وثيقة الصلة بالمتاحف ورسالتها الإبداعية؛ لذا نستطيع القول إن هذا التصميم استطاع أن يتماشى مع جغرافية قطر، مستحضرا تاريخها وتراثها وثقافتها بطريقة مبتكرة.
ما تعليقكم على فوز تصميم المتحف بلقب أفضل إطلاله من الأسطح ضمن جوائز مجلة "وول بيبر" للتصميم لعام 2019؟
ليس مستغربا حصول التصميم على جوائز عالمية إذا عرفنا أن أسطح المتحف تأخذ شكل أقراص إسمنتية مائلة متشابكة بأحجام مختلفة بعضها رأسي وبعضها أفقي متداخلة في بعضها البعض، وتتلون بلون رمال الصحراء؛ ليبدو معها المبنى كأنه نبت خارج من الأرض، ومتحد معها، وبين الأقراص تعلو واجهات زجاجية تملأ الفراغات ليبدو لنا وحدة متكاملة تجمع بين التصميمين المعماري والجمالي.

ما أبرز المعوقات التي وقفت أمام إنشاء متحف قطر الوطني؟ وكيف تم التغلب عليها؟
إنشاء صرح على هذا النحو من الإبداع الذي نراه صاحبَته مجموعة من التحديات بلا شك، منها على سبيل المثال تنفيذ التصميم المستلهم من زهرة الصحراء الذي إن أردنا أن نضع له عنوانا فلن يكون هناك وصف أفضل من "الخيال"، بحسب وصف مصممه، الذي أوضح أن هذه النوعية من الهندسة المعمارية لم يكن لها وجود قبل ذلك، وأن مجرد طرح فكرة التصميم أمر جنوني، فتركيب شكل الوردة بالأقراص المتشابكة أفقيا ورأسيا بانحناءات وزوايا مختلفة معقد للغاية، ولكن تم التغلب على هذا التحدي بفضل الاستعانة بتقنيات متطورة بعد أن تم تصميم المشروع كاملا على برنامج حاسوبي.

تحديات التصميم
وليس هذا فقط، بل كانت تحديات التصميم كثيرة، ومنها تجميع أسطح السقف المكون من عشرات الأقراص بأحجام وأشكال مختلفة، حيث أشار مدير المشروع السيد سانغ بوك لي إلى أنهم استخدموا نموذج "بي إي أم" ثلاثي الأبعاد من البداية حتى النهاية، وقاموا بالتجميع في المصنع وليس في موقع العمل.

هذا إلى جانب تحديات التجهيزات والمحتوى؛ فالترتيب والتنسيق لمتحف بهذا القدر والمكانة، واختيار محتوياته لم يكن أمرا سهلا على الإطلاق، فنحن نتحدث عن أمور لوجستية كثيرة، وقد تغلبنا على هذه التحديات من خلال ورش العمل وإشراك المجتمع والفنانين وغيرهم من الأطراف ذات الصلة، حتى وصلنا إلى رؤية واضحة لمحتوى المتحف من الداخل، لا تقل إبداعا وجمالا عن المظهر الخارجي.

 ما أهم المبادرات المجتمعية التي قام بها متحف قطر الوطني؟
 
متحف قطر الوطني -كما وصفته رئيس مجلس أمناء متاحف قطر الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني- ملك لكل قطري، وجزء من تاريخه، وامتداد لجذوره، وانعكاس لهويته؛ لذا فأفراد المجتمع من المواطنين والمقيمين أيضا عنصر أساسي في إستراتيجية المتحف.

لقد بدأت الشيخة المياسة هذه المبادرات بدعوتها المواطنين والمقيمين بالتبرع بما لديهم من وثائق أو مقتنيات تمثل جزءا من ذاكرة قطر لتخليدها في المتحف، تقديرا لأهل قطر، وإشارة إلى أن هذا المتحف منهم ولهم، وهناك الكثير من المبادرات الاجتماعية الأخرى، حيث تمت دعوة سكان قطر لمشاركة قصصهم التي تحكي في مجموعها قصة قطر عبر ذكرياتهم الشخصية.

وعملنا على جمع وتسجيل هذه الروايات التاريخية الشفهية ضمن مشروع امتد أكثر من خمس سنوات، لا يحفظ لنا المعلومات حول بلدنا فقط، بل يحتفظ لنا بشيء من روحها أيضا. وسجلنا مئات الساعات من المقابلات مع مجموعة متنوعة من أفراد المجتمع الذين شاركونا قصصهم وتجاربهم الشخصية، إلى جانب تنظيم جولات حصرية لأعضاء برنامج "بطاقتك إلى الثقافة" داخل متحف قطر الوطني، كما أطلقنا مسابقة طلابية كبيرة يعبر فيها الطلاب عن مكانة قطر في نفوسهم من خلال بطاقات فنية جميلة لعرضها ليلة الافتتاح، بالإضافة إلى العديد من المبادرات المجتمعية المخطط لها، التي سيعلن عنها المتحف بعد افتتاحه، والمتوقع لها أن تجعل من المتحف وجهة رئيسية للعائلات والطلاب وأفراد المجتمع بشكل عام، حيث أؤكد مجددا أن توجه متحف قطر الوطني نحو المجتمع من أهم عناصر إستراتيجيته، إن لم يكن الأهم.

ما المحاور الرئيسية لمتحف قطر الوطني؟
سيكون المتحف ذاكرة لدولة قطر، يروي تاريخها وتاريخ شعبها ويحتفي بتراثها؛ مما يعزز الانتماء والحس الوطني من خلال ربط ماضي الشعب بحاضره المتنوع والمنفتح على العالم، مانحا دولة قطر صوتا تعبر من خلاله عن احتضانها الماضي واستشرافها المستقبل، كما سيعكس المتحف التزام دولة قطر بدعم الفنون على المدى الطويل، حيث يمثل المتحف درة تاج المؤسسات الثقافية في الدولة، هذا إلى جانب التحول إلى فضاء معرفي مزدهر للطلاب والمتخصصين وعامة الجمهور، كما سيعيد المتحف تعريف دور المؤسسات الثقافية بتشجيعه روح المشاركة وتهيئة الظروف الملائمة للإبداع والاستكشاف، ومن ثم يمكن أن نجعل هذه المحاور في ربط الماضي بالحاضر، والتحول إلى منبر للتعلم والمعرفة، والمشاركة المجتمعية؛ نموذجا تحتذي به الدول في بناء متاحفها الوطنية.

ما الأقسام التي يتضمنها متحف قطر الوطني؟
ينقسم متحف قطر الوطني إلى ثلاثة أقسام: البدايات، والحياة في قطر، وبناء الأمة. وتعرض محتويات هذه الأقسام في 11 صالة عرض، حيث ينطلق الزائر في رحلة زمنية يقطع خلالها مسافة 1.5 كيلومتر، يبدأها مع الحقبة الجيولوجية قبل استيطان الجزيرة العربية، ثم ينتقل من محطة لأخرى عبر التاريخ، وصولا إلى وقتنا الحالي.

وكل صالة من الصالات الـ11 تتميز ببيئتها الشاملة، حيث تروي فصلا من فصول القصة الكبيرة للمتحف من خلال مزيج بديع من العناصر، مثل المرويات التاريخية والصور الأرشيفية والأعمال الفنية وسماع الحكايات والروائح المرتبطة بالذكريات.

كما تحتوي صالات العرض على مجموعة مذهلة من المقتنيات الأثرية والتراثية، من بينها سجادة بارودة الشهيرة المصنوعة من اللؤلؤ، التي أُمر بتصميمها عام 1865، والمطرزة بأكثر من 1.5 مليون لؤلؤة خليجية عالية الجودة ومزينة بالزمرد والماس والياقوت، إلى جانب المخطوطات والوثائق والصور والجواهر والأزياء.

ما التأثير الذي تأملين أن يحدثه متحف قطر الوطني على المستويين المحلي والإقليمي؟
المشاعر التي يكنها أفراد المجتمع لمتحف قطر الوطني جياشة، ونلمس هذا من التواصل المباشر مع الجمهور، وعبر وسائل التواصل.

فالجميع يسأل عن أخبار المتحف باهتمام، ويترقب افتتاحه بشغف، ونحن نعي ذلك تماما، ونعي ما يمثله المتحف من أهمية ورمزية لأبناء شعبنا، لذا نعد الجمهور بأن نكون على قدر توقعاتهم، ونأمل أن نحول متحف قطر الوطني على المستوى المحلي إلى بيت للشعب، بكل ما تعنيه كلمة بيت من كلمة، حيث التواصل بين الأجيال واجتماع الأهل والمرح والتعلم، ونأمل أن يكون المتحف دافعا لتعزيز روح الانتماء الوطني والهوية القطرية، وأن يكون مرجعا للتراث القطري، ومجلسا يلتقي فيه الأبناء مع من رحل من أجدادهم، وساحة يجتمع فيها الآباء مع أبنائهم، ونأمل أيضا أن يكون مصدرا رئيسيا للتعلم والمعرفة بما فيه من محتويات وبما سيقدمه من أنشطة وبرامج ثرية تجمع بين متعتي التعلم والترفيه.

كما نأمل أن يساعد المتحف في تحقيق ركيزة التنمية البشرية في رؤية قطر 2030، وذلك لدوره التعليمي والتربوي والتثقيفي، والركيزة الاقتصادية أيضا بتحويل اقتصاد قطر إلى اقتصاد معرفي؛ فالمتاحف تعد محفزا للاقتصاد غير النفطي، وأحد مقومات التنوع الاقتصادي المستقل عن حركة النفط وتقلباتها، ورافدا من روافد السياحة الثقافية.

ولدينا خطط طموحة في متاحف قطر لترسيخ مكانة دولة قطر كمركز ثقافي في المنطقة والعالم، ونأمل أن يؤدي المتحف دورا بارزا في هذا الشأن من خلال برامجه ومحتواه المبتكر، وأن يقدم مرجعا ونموذجا يحتذى لغيره من المتاحف الوطنية في المنطقة، كما نأمل أن يكون منبرا تخاطب من خلاله قطر العالم على نحو يكسبها مزيدا من القوة على الساحة الثقافية العالمية.

تزخر دولة قطر بالمقتنيات الشخصية، فماذا تقدم متاحف قطر لدعم أصحاب هذه المقتنيات؟
متاحف قطر أبوابها مفتوحة دائما أمام جامعي المقتنيات، وتقدم لهم ما يلزم من الدعم، ومن أبرز أوجه هذا الدعم تنظيم المعارض لجامعي المقتنيات تقديرا لجهودهم في خدمة الحركة الثقافية.

ولعل أبرز الأمثلة على ذلك معرض السيد فاضل المنصوري بعنوان البارود والجوهر الذي نظمناه في متحف الفن الإسلامي العام الماضي، ووجد ترحيبا مجتمعيا كبيرا، أدى إلى استمراره شهورا عديدة. كذلك نظمنا نسختين من معرض "مال لول" لجامعي المقتنيات، ليس فقط في قطر، بل في منطقة الخليج برمتها، ولاقى المعرض نجاحا كبيرا للغاية.

وكانت نواة متحف "المتحف العربي للفن الحديث" مجموعة من الأعمال التي اقتناها الشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني، وذلك يعكس إيماننا بأهمية المقتنين الشخصيين الذين لا نبخل بتقديم أوجه الدعم المطلوبة لهم.  
 
 ما الطرق التي يقوم بها المتحف من أجل تقديم الفنون للجمهور وتنمية الملكة الإبداعية لديه؟
من أهداف متاحف قطر الرئيسية إتاحة الفنون أمام الجميع، وجعلها جزءا اعتياديا من حياتهم اليومية؛ فإلى جانب زيادة عدد المتاحف وإقامة المعارض على مدار العام، أطلقت متاحف قطر برنامجا مبتكرا، وهو برنامج الفن العام بغرض الانتقال بالفنون خارج جدران المتاحف والوصول بها إلى أماكن تواجد الناس لا العكس، لكي يعتاد الناس عليها ويتفاعلوا معها باستمرار، فمن المطار إلى الكورنيش إلى الحدائق والأماكن العامة حتى الصحراء تجد أعمالا فنية لمتاحف قطر في كل مكان.

وتنظم متاحف قطر على هامش جميع معارضها العديد من الأنشطة الجماهيرية المرتبطة بالمعارض، والتي تهدف إلى إثراء معرفة الجمهور بمحتوى المعرض بطرق عملية، هذا إلى جانب ورش العمل لتعليم الفنون للكبار والصغار التي تعقدها متاحف قطر طيلة العام، والبرامج المبتكرة وفي مقدمتها برنامج "بطاقتك إلى الثقافة" المفتوح للجميع، والذي يتيح لمنتسبيه فرصا عديدة للانخراط في عالم كامل من الفنون.

ومن أبرز البرامج التي تنظمها متاحف قطر لتنمية الملكات الإبداعية للفنانين المحليين برامج الإقامة الفنية في الداخل والخارج، حيث أطلقت متاحف قطر حتى الآن ثلاثة برامج؛ أولها برنامج الإقامة الفنية في الدوحة بمطافئ (مقر الفنانين) الذي يستمر تسعة أشهر متواصلة، وكذلك برنامج الإقامة الفنية في باريس لمدة ثلاثة أشهر، ومؤخرا تم إطلاق برنامج للإقامة الفنية في نيويورك لمدة ثلاثة أشهر أيضا، وهي برامج تعقد سنويا، وتهدف إلى صقل الملكات الإبداعية للموهوبين وإكسابهم خبرات دولية بتعريفهم على أشهر مجتمعات الفنون الدولية.

 
ما الهدف من تنظيم اللقاءات السنوية بين متاحف قطر والمدرسين والطلاب داخل الدولة؟
تؤمن متاحف قطر بأن لها دورا كبيرا في المنظومة التعليمية، باعتبارها مصدرا مهما من مصادر التعليم غير التقليدي، ومن ثم يتمثل الهدف من تنظيم هذه اللقاءات في تشجيع المعلمين في الدولة على التعاون مع المتاحف.

ففي هذه اللقاءات تعرض متاحف قطر البرامج التعليمية على المعلمين، وتعرفهم بمعارضها والطرق التي يمكن للمعلم التواصل بها مع طاقم العمل، وبالتالي الاستفادة مما تقدمه المتاحف من خدمات، كما تستمع متاحف قطر إلى آراء المعلمين حول هذه البرامج والموارد التعليمية لتحسينها بما يتوافق مع اهتمامات المعلمين لإفادة طلابهم، إذ تهدف متاحف قطر إلى دعم المناهج الدراسية وربطها بمحتوى المتاحف بقدر الإمكان، وكذلك إتاحة موارد المتاحف أمام المعلمين والطلاب لأغراض تعليمية.