قصيدة السطر والرسم بالكلمات في زمن مواقع التواصل.. الشذرة الشعرية تنافس أشكال الشعر العربي

Omran Abdullah - لا تشبه الشذرات الشعرية الأشكال التقليدية للشعر العربي مثل العمود، التفعيلة، قصيدة النثر، ويكيبيديا - قصيدة السطر والرسم بالكلمات في زمن مواقع التواصل.. "الشذرة" الشعرية تنافس أشكال الشعر العربي
لا تشبه الشذرات الشعرية الأشكال التقليدية للشعر العربي مثل العمود والتفعيلة وقصيدة النثر (ويكيبيديا)

صدام أبو مازن-صنعاء

 
 

 الألم يرفع من شأن الكبار وحدهم

تجعلنا المرأة شعراء والأطفال فلاسفة

من بين جميع المخلوقات وحده الرجل يبحث عن متعتين في وقت واحد

على هذه الشاكلة عشرات الآلاف من الشذرات الشعرية بعضها في سطرين وأطولها في أربعين سطرا، كتبها الشاعر الفرنسي الموريسي مالكولم دو شازال (1902- 1981) تضمنتها إصداراته التي تزيد على ستين كتابا منذ بدء مشواره مع الكتابة الأدبية وحتى وفاته.

تبدو الصورة الشعرية لدى القارئ لشذرات دو شازال عادية تارةً وصادمة طوراً آخر، غير أنها في جميع الأحوال مسكونة بهاجس خلق المدهش عن طريق المفارقة والدعابة، حتى بدا "شعر" دو شازال وكأنه فهرس للصور الشعرية المصاغة بلغة لا دور لها سوى دور الحامل للفكرة والمعنى، أي الرسم بالكلمات لخلق أدب جديد يختلط التشكيلي باللغوي فيه.

ويطلق الشاعر الفرنسي وصف "الأدب-الرسم" على هذا النوع وفقاً لما نقله إلينا الشاعر والمترجم العراقي عدنان محسن، صاحب ترجمة كتاب: مالكو دو شازال شاعر الشذرات/قصائد تليها مختارات من الحس التشكيلي الصادر عام 2017.

اقتصاد لغوي
تتكئ الشذرة في أكثر حالاتها على "الاقتصاد اللغوي" اقتصاد يتشكل على نحو موجز وبديع في كتابة الشعر، وفي أبسط تعريف لها تعد "قصيدة في سطر" أو طائرا جميلا يمكنه التحليق بريشة واحدة. 

ولا تعترف الشذرة بالحذف والتشذيب والتنقيح، هي شكل مختلف يولد مكتملا بلا شوائب، أو هكذا يفترض أن تكون مخاضات ولادتها. 

بمعنى آخر الشذرة تتبنى فكرة "لا مركزية النص" في وقت ما زالت الأشكال الشعرية العربية (العمود، التفعيلة، قصيدة النثر، وغيرها) تتراشق وتتصارع حول الأسبقية والأفضلية ومن يذهب إلى المستقبل ومن يتخلف؟

محسن ترجم شذرات دو شازال (مواقع التواصل)
محسن ترجم شذرات دو شازال (مواقع التواصل)

لا بداية ولا نهاية
ينوه الشاعر والمترجم المغربي المقيم بباريس راك معروف بأن الكتابة الشذرية تفيد التشظي والانكسار والتقطع واللااكتمال. كأنها نصوص بلا بداية ولا نهاية.

ويستدرك معروف قائلاً إنها ليست تشظي نص سابق في صيغته الطويلة والمكتملة والمتواصلة، فالنص المكتوب بنفس طويل مؤطر بمكان (أو عدة أمكنة محددة بينها خيط رابط من الأحداث المربوطة بخيط منطقي) أو بزمان متواصل دون تقطع. إنها شظايا مستقلة بذاتها يمكن قراءتها منفردة أو مجتمعة بين دفتي كتاب، مبوبة حسب تيمات معينة.

لكن معروف يلفت الانتباه -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن هناك نوعا لم يحظ إلا قليلا بالدراسة وهو دفتر الملحوظات أو "carnet de note" الأدبي، مما يثير سؤالا آخر حول الكتابة الشذرية والتفاعلية.

شخصيا يملك معروف الكثير من هذه الدفاتر الصغيرة التي تحتوي جزءا كبيرا من حياته. يشار إلى أن الأخير ترجم نصوصا لكتاب عالميين تميزوا في كتابة الشذرة منهم الشاعر والروائي الفرنسي آلان بوسكيه.

ضغط بحر في قطرة
"الشذرة، ضغط بحر في قطرة" كما يعرفها فخري رطروط أحد أهم كتابها المعاصرين والشاعر الفلسطيني المقيم بنيكاراغوا بحديثه للجزيرة نت، ويقول:

الشذرة ضغط بحر في قطرة

الشذرة ضغط العين في دمعة

الشذرة ضغط الجبل في صخرة

الشذرة ضغط الطريق في حذاء

الشذرة ضغط الربيع في زهرة

الشذرة ضغط دجاجة في إصبع نقانق.

الشذرة برعم صغير يتطور إلى ثمرة، وقد تتمدد القطرة فتصير بحراً، قد تتمدد الصخرة لتصير جبلاً، المهم أن تمتلك السر والآلية.

الشذرة نكهة مركزة.

الشذرة أصعب أنواع الكتابة، لأن فيها الزبدة، فيها عصر الدماغ إلى أبعد نقطة.

ليست "حِكَماً"
يظلم البعض "الشذرات" حين يتعامل معها باعتبارها "حِكَماً" فالشذرة ليست حِكمةً، فالحكمة مختزلة في عبارة واحدة تخلو من الشاعرية، جامدة لا تحلق، بينما الشذرة "قد تكون أي شيء: شعراً، فلسفة، تصوفا، تأملات وجودية، إلا إنها لن تكون حِكَماً" وفقاً للمترجم الأردني من أصل فلسطيني وليد السويركي، في تقديمه لكتاب "أصوات" مختارات للشاعر الأرجنتيني أنطونيو بورشيا الذي ترجمه السويركي عن الإسبانية.

 السويركي ترجم مختارات للشاعر الأرجنتيني بورشيا (مواقع التواصل)
 السويركي ترجم مختارات للشاعر الأرجنتيني بورشيا (مواقع التواصل)

ويقتبس السويركي -لكي يضع حدا لمن يتعاملون مع الشذرات- شذرات بورشيا على نحو خاص باعتبارها حِكَمَاً، ما قاله بورشيا نفسه "لا يقولن أحدٌ إنني أكتب حِكَماً. سيجعلني ذلك أشعر بالإهانة".

هل تعرف كيف يمحو فبراير يناير؟

تنين نائم في ديوان المتنبي، لا توقظوه

أفتح بطيخة، فيخرج لي وحيد قرن حزين ورديّ اللون

بهذه الشذرات من مجموعة "تحت جناحي الممزق تستريح الريح" من إصدارات "الآن ناشرون وموزعون -عمّان" يختصر فخري رطروط الشاعر والمترجم الفلسطيني المقيم بنيكاراغوا تفاصيل كثيرة في جزئيات صغيرة، حين تقطف الشذرة لب الكلام لتفلسف يومياتنا بالشعر.

وصدر لرطروط حتى الآن ست مجموعات شعرية "جنة المرتزقة، صنع في الجحيم، 400 فيل أزرق، البطريق في صيف حار، تحت جناحي الممزق تستريح الريح، مستندٌ بلا عنوان". 

وبدءا من ارتطام الكويكبات والأجرام السماوية ببعضها وصولاً إلى محاورة الخضراوات والفواكه والأدوات الحادة على رف المطبخ، وأبعد من ذلك تأتي شذرات رطروط، تفلسف الحياة وترمم فداحاتها، وتحشر مئة صورة شعرية في صفحة واحدة من كتاب.

منذ صرت الوحيد الذي يعرف ما يصيبني، لم يعد يصيبني شيء

وحده الجرحُ يتحدث لغته الخاصة

كل شيءٍ مثل الأنهار: من صنع مُنحدر

أجل، هذا هو الخير: غفران الشرّ. لا يوجد خيرٌ آخر.

تلك شذرات نقتطفها من كتاب "أصوات" لأنطونيو بورشيا، من الإجحاف (بل من الظلم) أن نقول عنها أنها حِكَمٌ. 

وهنا يشير السويركي إلى أن بورشيا لا ينطلق في كتابة شذراته محتوىً وأسلوباً، من موقع المجرِّب العالم بالأمور والمتيقن الذي يقدم خلاصة تجربته ومعرفته للآخرين ليهتدوا بها، ولا يظهر من خلالها بصورة العارف المدرِك لمعرفته، بل بصورة الشاعر القلِق الذي لا يُدرِك لا سرّ الشعر ولا سرّ الوجود، الشاعر الذي يشكّ ويتناقض ولا يكفّ عن طرح الأسئلة.

يضيف السويركي: شذرات بورشيا ثمرة قدرة فريدة على الانتباه والإصغاء الدائمين للعالم، والتأمل العميق في كل شيء، من أصغر الأشياء إلى أعظمها، من حبّة الرمل إلى الله".

رطروط يستلهم من الحياة في نيكاراغوا مادة إبداعية لقصائده (الجزيرة)
رطروط يستلهم من الحياة في نيكاراغوا مادة إبداعية لقصائده (الجزيرة)

ثمة شعراء عرب كتبوا الشذرة باقتدار مثل الراحل عدنان المبارك الذي عده النقاد من أهم الأصوات العربية في كتابة الشذرات، وهناك أيضا "رشيد وحتي" الذي عرف بتميزه في كتابة الشذرات وترجمتها عن الأدب العالمي.

ينطلق رطروط في كتابته للشذرات من إيمانه بأن "الحشو يقتل الأدب" بحسب تعبيره. 

فالشذرة -كما يراها رطروط- تتواءم مع قلة الوقت ومع سرعة العصر الذي بات كل شيء فيه يتطور بطريقة سريعة مختصرة، كما أن إدمان فيسبوك حولنا جميعاً إلى شذريين، الجميع يميل إلى النصوص القصيرة المحملة بشحنة تفجير عالية.

الشذرة لا تموت
ويراهن رطروط في حديثه للجزيرة نت بالقول إن الشذرة لا تموت لقد باتت فناً أدبياً له كتّابه وقرّاؤه والكثير من المتذوقين والكثير من الباحثين عن الزبدة، مثلها مثل الهايكو. 

ويتابع قائلاً إنه في المستقبل لن يطرأ تغيير كبير على شكل الشذرة، التغيير سيكون في المضمون، وفي آلية الكتابة، وتكمن روعة الشذرة في اقترابها من كل الفنون وكل مواضيع وأنواع الكتابة.

ويضيف أن العالم يتجه للتقنين واختصار الأحجام الكبيرة في أشياء صغيرة، حتى فلاشة الحاسوب اعتبرها شذرة، فأنت تضغط مكتبة في فلاشة صغيرة، طائرة الدرون الصغيرة شذرة تختصر طائرة كبيرة ومصوِّرا وكاميرا.

وعن منجزه الشعري المتضمن في ست مجموعات من شذراته ولماذا اتجه أصلا لكتابة الشذرة، يعتقد رطروط أن "الشكل الأدبي هو الذي يختار كاتبه".

ويضيف بهذا الصدد: أكتب الشذرة لضيق الوقت والكون والروح والطاقة، ولأني مطارد ومطالب بإنجاز شيء ما. لأنني أشعر بالملل والضجر مثل بركان، ولا بد من تنفيسات صغيرة كي لا يحدث الانفجار. أكتب الشذرة لأن الوحش في داخلي يحب الصمت والهدوء ويكره الحشو والثرثرة.

ورغم الاهتمام بترجمات حديثة لشذرات من الشعر العالمي إلى العربية فما يزال التفاعل محدوداً، وترجم الشاعران محسن والسويركي نصوصا من أدب الشذرات العالمي بينها قصائد دو شازال، في حين ترجم المغربي أحمد لوغليمي كتابا عن الإسبانية وعن الفرنسية لأنطونيو بورشيا.

وقال لوغليمي للجزيرة نت إنه يتطلع إلى أن تصدر ترجمات له في كتب بالمستقبل القريب، مؤكدا أن ترجمة الشذرات شغف لا أجمل منه.

المصدر : الجزيرة