نجوى بركات.. سر واحد بين لغتين

غلاف "لغة السرّ".

الصحبي العلاني

أصدر المستعرب فيليب فيغرو الترجمة الفرنسية لرواية الكاتبة اللبنانية نجوى بركات "لغة السر" عن دار "سندباد" الباريسية التي أسسها بيار برنار سنة 1972 وجعل منها -بعناده وجهاده- أبرز دار نشر فرنسية متخصصة في التعريف بالآداب العربية القديمة والحديثة والمعاصرة.

وكان علينا أن ننتظر عقدا من الزمان لكي نقرأ في لغة موليير عملا سرديا متميزا سبق لدار الآداب في بيروت أن نشرته بالعربية منذ سنة 2004.

المهمة المستحيلة
من بين أهم النصوص التي ستحتفظ لنا بها ذاكرة الأدب العربي قصيدة الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم (1872-1932) التي أجراها على لسان اللغة العربية وجعلها مزيجا من شكوى الحال واستشراف المآل.

ومن بين أشهر أبياتها قوله: وسعت كتاب الله لفظا وغاية/ وما ضقت عن آي به وعظات/ فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة/ وتنسيق أسماء لمخترعات//أنا البحر في أحشائه الدر كامن/فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟/ فلا تكلوني للزمان فإِنني/أخاف عليكم أن تحين وفاتي.

اللبنانية نجوى بركات دخلت عالم الرواية من بوابة الفنون الدرامية (غيتي)
اللبنانية نجوى بركات دخلت عالم الرواية من بوابة الفنون الدرامية (غيتي)

أن يخص شاعر في قيمة حافظ إبراهيم وفي قامته اللغة العربية بقصيدة يراوح فيها بين الفخر والرثاء والعتاب والدعاء فليس ذلك بالغريب إطلاقا، خاصة أن أدوات الشعر الفنية ووسائله التعبيرية تبدو مهيأة لمثل هذه الغايات متناسبة مع مثل هذه المرامي.

أما أن يتخذ القصّاص والروائيون اللغة غرضا لهم وموضوعا يتدبرونه متجاوزين مجرد اعتمادها مادة يصوغون بألفاظها عوالمهم التخييلية فذلك ما يعد مهمة فريدة بل شبه مستحيلة، على الأقل في حدود المواضعات المألوفة التي استقرت في فن الشعر وفي فنون السرد.

ولكن نجوى بركات قبلت التحدي وأقدمت على الرهان فانتقلت بنا من اللغة مادة للسرد إلى اللغة موضوعا للحكاية حين جعلت نص روايتها "لغة السر" نصا للاحتفاء باللغة العربية، لا من أجل تمجيدها أو المفاضلة بينها وبين سائر اللغات، بل من أجل النفاذ إلى جذورها التاريخية وقضاياها المفهومية وأعماقها الجمالية في إطار حبكة سردية/سحرية آسرة مازجت فيها بين علوم اللسان ومعارف الفيلولوجيا ومواجد التصوف وأسرار الحروف.. والبوليس!

لغة الجراح النازفة
لم تكن نجوى بركات المولودة ببيروت سنة 1966 خريجة إحدى كليات الآداب في لبنان، ولا علاقة لها إطلاقا بأي من أقسام اللغة أو بفرع من فروع الدراسات الأدبية والنقدية، بل إنها "طارئة" على عوالم السرد والرواية من باب "سري" لا يخطر على بال أحد، باب الفنون الدرامية والمشهدية.

بركات لم ترض بالإجابة التي قدمها ابن جني وسعت إلى صياغة إجابتها الخاصة عبر عمل روائي سردي بأحداثه وشخصياته وخلفياته ودلالاته التي جعلت من اللغة العربية دراما مفتوحة على جرح نازف

التكوين الأكاديمي الذي حصلته نجوى بركات في مجال تخصصها أكسبها حساسية "درامية" تجاه اللغة العربية لا نجد نظيرا لها حتى لدى المتخصصين في اللغة والآداب العربية أنفسهم، وذلك ما يتأكد لدينا منذ الصفحات الأولى لروايتها سواء في طبعتها العربية أو في نسختها الفرنسية.

فقد اختارت بركات أن تستهل عملها بإشارة نقلتها عن عالم اللغة العربي الشهير أبي الفتح ابن جني صاحب كتاب "الخصائص" هذا الذي طرح على وعي اللغة العربية -أو بالأحرى على لا وعيها- سؤالا محيرا لا يخلو من إرباك "لماذا قالوا "كلم" للجرح، و"كلم" للكلام؟".

لم ترض نجوى بركات بالإجابة التي قدمها ابن جني نفسه حين قال "ذلك أنه (يعني الكلام، أي المنجز اللغوي العربي) سبب كل شر وشدة في أكثر الأمر"، بل إنها سعت إلى صياغة إجابتها الخاصة، وما الإجابة التي قدمتها إلا الرواية نفسها بأحداثها وشخصياتها وخلفياتها ودلالاتها وأبعادها التي جعلت من اللغة العربية دراما مفتوحة على جرح نازف.

متاهة المعاني
تسحب نجوى بركات قراءها إلى عالم روائي قائم على الأضداد والتناقضات فتقودهم إلى قرية "اليسر" التابعة قانونيا لقضاء "الكرب"، وتغوص بهم في أسرار أخوية "الوفاء" التي يبدو قاطنوها -في الظاهر- متناغمين مع ذواتهم ومع الوسط الذي وجدوا فيه، ولكنهم -وراء جدران "الأخوية"- يقودون صراع الإخوة الأعداء وسط صمت مهيب/مريب تواطأ فيه الجميع على حفظ الأسرار الفاضحة التي سيتضح لاحقا أنها تعبق برائحة الفجيعة والدماء. 

لم يكن من السهل أن يترجم هذا النص إلى لغة أجنبية، مما جعل نسخته الفرنسية مثقلة بالهوامش والتوضيحات التي كان لا بد منها حتى تنجح لغتان في تقاسم سر واحد اسمه "متاهة اللامعنى"

كان كل شيء ينبئ بالسكون إلى أن هبت العاصفة في شكل كابوس رأى فيه "سراج" (إحدى شخصيات الرواية) "حرف النون (ن) ملقى على الأرض مقلوبا ونقطته تبعط في داخله حتى الاختناق"، ثم رأى "حرف العين (ع) فاتحا فاه على أقصاه يوشك أن يطبق فكيه كالثعبان" ثم شاهد "الياء (ي) سابحة على وجه الماء تحمل على متنها ما تيسر لها حمله من إخوتها وأخواتها.. تتقدم مجدفة قبل أن يقوى السيل فيدفعها إلى الصخور فيتكسر جسدها بمن فيه ويغمرها الزبد المتعاظم فتطفو أشلاؤها وأشلاء من معها من غرقى الحروف، في مشهد يدمي القلوب".

وهذا كابوس حروف متفرقة ليس من العسير على من يجمع شتاتها أن يتفطن إلى دلالتها الخفية، دلالة "النعي"، نعي عالم ينحدر في هاوية الفوضى.

ولم يكن من السهل أن يترجم هذا النص إلى لغة أجنبية، مما جعل نسخته الفرنسية مثقلة بالهوامش والتوضيحات التي كان لا بد منها حتى تنجح لغتان في تقاسم سر واحد اسمه "متاهة اللامعنى".

المصدر : الجزيرة