"فرانكشتاين في بغداد".. صناعة الوحش لمقاومة الوحشية

غلاف رواية "فرانكشتاين في بغداد" للعراقي أحمد سعداوي
undefined
كمال الرياحي
 
منذ سنوات تهاطلت الأعمال الأدبية التي حملت عناوين كتب عالمية شهيرة أو أبطالها أو أسماء كتابها أو إحالة على عوالمها، ومنها مثلا "زوربا البرازيلي" لخورخي أمادو، أو "كافكا على الشاطئ" و"1984″ لهاروكي موراكامي.

وعربيا هناك "أصابع لوليتا" و"حارسة الظلال أو دونكيشوت في الجزائر" لواسيني الأعرج أو "بابا سارتر" لعلي بدر أو "عزيزي السيد كواباتا" لرشيد الضعيف.

وها هو العراقي أحمد سعداوي يلتحق بهذه الظاهرة في الأدب الغربي والعربي بروايته "فرانكشتاين في بغداد" الصادرة عن دار الجمل والمرشحة في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، في إحالة مباشرة على رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي.

يأخذ سعداوي الفكرة المعروفة لينزلها من جديد في فضائه البغدادي سنة 2005 إثر الغزو الأميركي للعراق، فانطلق بذلك من واقع فعلي ووقائع يومية سريالية يشاهدها المواطن العراقي في بغداد يوميا

شيلي وسعداوي
انطلقت الرواية الإنجليزية من حكاية الطالب فيكتور فرانكشتاين الذي تمكن من اختراع كائن جديد عملاق، انتفض يروم الانتقام من الطغاة والتخلص من زعماء الشر الذين كانوا سببا في دمار العالم بتوظيفهم السيئ للعلم، فأقاموا الشر بدل الخير واستعبدوا الناس في كل مكان.

غير أن الوحش يتمرد على مخترعه ويتحول إلى آلة أخرى للقتل حتى ينتهي به المطاف إلى قتل فيكتور فرانكشتاين نفسه، بعد أن أجهز على زوجته وأخيه. 

يأخذ سعداوي هذه الحبكة وأصل الفكرة المعروفة لينزلها من جديد في فضائه البغدادي سنة 2005 إثر الغزو الأميركي للعراق، فانطلق بذلك من واقع فعلي ووقائع يومية سريالية يشاهدها المواطن العراقي في بغداد يوميا، واقع التفجيرات الذي تحول إلى سياق يومي سوداوي أصبح خليقا بظهور عظيم. فالعراق بدا وكأنما ينتظر "غودو" ليخرج من مستنقع الدم، ولأن غودو ارتبط بالانتظار اليائس كان فرانكشتاين هو الحل عند سعداوي.

إن حالة الدمار التي يعيشها الفضاء العراقي البغدادي، كما يراها الكاتب ويعيشها نزعت عن المكان مفهومه الأصلي وإحالاته المرجعية المرتبطة بالتمدن والأمن والسكن والثبات، وجعلت منه فضاء عدوانيا وطاردا ولا يؤتمن، فهو مكان موبوء بالفجيعة، ملطخ طوال الوقت بالدم، فضاء مفكك بعد بناء انعكاسا لصورة العراقي المستهدف والمتطايرة أشلاؤه في التفجيرات الإرهابية.

هذا الفضاء المتطاير، وهذه الأشلاء المبعثرة تطلبت ظهور"هادي العتاك" بائع العاديات ببغداد الذي سيهرع بعد كل تفجير ليلتقط عضوا بشريا من إحدى الضحايا ليبني به كائنا قويا ينتفض في شكل عملاق سيسعى للانتقام من الإرهابيين الذين تسببوا في تلك التفجيرات.

الكائن الجديد إذاً هو "وحدة" الضحايا والشهداء، لأنه مشكل من الذين استشهدوا في تفجيرات متباعدة، وهو لا يمثل هوية فردية ولا يحمل هوية إثنية أو عشائرية ولا حتى أيديولوجية، إنه يعكس العراقي في حالته الخام.

هذا هو المعنى العميق لهذا التناص الرفيع مع فرانكشتاين الأصلية والتي لم تحمل هذا المعنى. إن خروج هذا المارد للانتقام من قوى الشر والمتمثلة في الإرهابيين هو دعوة إبداعية وثقافية لخروج كل العراقين للتصدي لعدو واحد هو الإرهاب واستبعاد الانتماءات بشتى أنواعها، خروج الأجساد الحية دفاعا عن الحياة المستهدفة من أباطرة القتل.

الجسد في الحرب
في "فرنكشتاين في بغداد" نحن أمام تعامل آخر مع الجسد البشري، وكما كل فضاءات الحرب ينتزع الجسد أهمية كبرى بصفته موضوع صراع، فالصراع صراع أجساد حول الأجساد، صراع حول إخضاع أو محو أجساد لتمكين أجساد أخرى من الحلول محلها.

مستعمر أميركي يطأ الأرض بأجساد محتشدة من كل مكان ومرتزقة وتجار سلاح وأجساد إرهابيين يفخخون السيارات والعباد في عمليات انتحارية، وأجساد أخرى تتعرض للتنكيل والتفجير والمحو والتمزيق هي أجساد السكان الأصليين للأرض، وجسد يبنى من تلك الأجساد المعاقبة والمقموعة والمقتولة لينتفض منتقما من الأجساد السابقة. إنها حرب الأجساد كل الأجساد، في غابة معاصرة بوحوش أعنف.

"فرانكشتاين في بغداد" لسعداوي رواية تمثل جيلها في وعيها براهنها الاجتماعي والسياسي مستفيدة من الموروث الأدبي العالمي لتؤسس مع عدد من التجارب العربية الأخرى لحساسية جديدة في الرواية العربية

فرنكشتاين أو هادي العتاك
لقد مهد صاحب رواية "البلد الجميل" لشخصيته الروائية الجديدة بما يجعلها جديرة بدورها الذي يوكله لها، فأضفى سعداوي على هادي العتاك بعد الغموض الضروري، فهو وافد على الحي ولا أحد يعلم من أين جاء.

تاجر خردوات مجهول اقتحم الحي مع زميله في وقت أصبح فيه الفضاء بلا هوية، منتهكا من الغرباء، لكن "الكثيرين في الحي يعرفون هادي العتاك وناهم عبدكي قبل هذا بسنوات، كانا يمران بعربة يجرها حصان لشراء الأغراض المستعملة والقدور والأجهزة الكهربائية المعطلة" كما مهد لنا الروائي للدور الجديد للشخصية بأدوار سبقتها كترميمه للخرابة اليهودية وإقامته فيها.

يظهر هادي العتاك بحي البتاوين ببغداد منذ البداية، في صورة باعث الحياة في المهمل والمتروك والميت من الأشياء والأمكنة، قبل أن يصل إلى اختراعه في بعث المارد العملاق من أشلاء الشهداء.

ربط الرواي ذكر هادي العتاك بالعجيب، فيصف الحكايات التي يرويها في المقهى بالحكايات العجيبة أو الحكايات الخيالية، وبقيت حكايته التي يرويها عن ذلك المارد الذي شكله من بقايا ضحايا التفجيرات الإرهابية مجرد خرافات لرجل مجنون.

لم يصدق الرواية إلا العميد سرور مجيد -مدير هيئة المتابعة والتعقيب والمكلف بالبحث في قضية هذا المجرم- والذي افتتحت به الرواية في بيان تحت عبارة "سري للغاية" يأمر بملاحقة المؤلف الذي اكتشف أنه كتب رواية انطلاقا من هذه الأخبار والحكايات العجيبة التي رواها هادي العتاك بالمقهى. وهكذا تعيدنا صورة المؤلف إلى صورة العتاك الذي يعيدنا إلى صورة فرانكشتاين في فن  الترميم والخلق من النفايات.

رواية "فرانكشتاين في بغداد" لسعداوي رواية تمثل جيلها في وعيها براهنها الاجتماعي والسياسي مستفيدة من الموروث الأدبي العالمي لتؤسس مع عدد من التجارب العربية الأخرى لحساسية جديدة في الرواية العربية بدأ يمثلها تيار يتحرك بالتوازي في المشرق والمغرب في انتظار فرانكشتاين نقدي يقارب هذه النصوص ويجمع هؤلاء الكتاب فيما يوحدهم فنيا ويميزهم عن بعضهم.

المصدر : الجزيرة