نص واحد وقراء متعددون

الكاتب إبراهيم صموئيل . ثمة الكثير جدا في دواخلنا يدفعنا لأن "نوقن" كي نرتاح من "جهلنا" ونركن إلى معرفة، ثم نكتشف فيما بعد كم كانت مخاتلة!
undefined
إبراهيم صموئيل
 
أليس جميلا، ودالا، بل بليغا، أن تُقرأ الرسالة الموجّهة إلى "سلمى" -في اسكتش غنائي للأخوين رحباني- قراءات متعددة ومتباينة، دون أن نصل إلى معرفة نصّها أو موضوعها أو مضمونها الحقيقي؟!

أبو سلمى -الأُميّ- كان لا بد له بعد أن تسلّم الرسالة من ساعي البريد أن يطلب منه قراءتها له. فيفعل الأخير ويقرأ: "حبيبتي سلمى…"، ومع كلام الحب والغرام -على حدِّ قراءة الساعي- ينتفض أبو سلمى غاضبا، غير مصدّق ما يسمع، وهو ما يدفعه للاستعانة بمعلمة المدرسة لتقرأ له الرسالة، وإذ بها تبدأ بالقول: "عزيزتي سلمى…" ثم تتابع -وفقاً لقراءتها- بالحديث عن الدراسة والامتحانات وضرورة الاستعداد لها!

وعوضا عن أن يبرد غضب الأب، تتأجّج نيران الشكوك في نفسه ويتزايد غضبه جراء اختلاف القراءتين! وحتى حين يستنجد بوالد مرسل الرسالة فيطلب منه أن يقرأها له، فإن هذا الأخير يقدّم قراءته المختلفة أيضا ليبدأ بالقول: "أيتها الآنسة سلمى…" ثم يتابع تلاوة الشكوى عن تأخّر والد سلمى عن دفع الديون المستحقة لقارئ الرسالة ذاته!

عمل الأخوين رحباني على بساطة ظاهره وبنائه، ينصب لمتلقيه فخّا إبداعيا لا ينجو منه!

ويُسقط في يد أبي سلمى! إذ ما من ضرورة بعد ذلك لعرض الرسالة على طرف/قارئٍ رابع، لأنه لن يجني بالمزيد من عدد القراء سوى المزيد من القراءات المتباينة والمختلفة والمتعارضة التي ستضاعف ضياعه وتوهانه عن معرفة حقيقة ما جاء في الرسالة.

ورغم أن اسكتش الأخوين رحباني هذا قديم في الزمن، فإنه -مثله مثل الأعمال الإبداعية الأصيلة-لا يفارق الذاكرة، ولا يكفّ عن توليد التساؤلات المقلقة الحافزة على التأمّل: أين الحقيقة؟ ومَنْ يملكها؟ وكيف نصل إليها؟

سحر هذا العمل وخصوصيته أن تساؤلاته التي يحفّزها فينا لا تولد من ترهّل العطالة، ولا تُشتّق من كتب الفلسفة، والبحث في الماورائيات، وإنما من البسيط، المعيش، والمادي، لتصعد -عبر الفن- نحو الفكري والعام.

والعمل، على بساطة ظاهره وبنائه، ينصب لمتلقيه فخّا إبداعيا لا ينجو منه! فهو يقوده، بداية، إلى واقعة حياتية دارجة جدا، حدثت وتحدث ملايين المرات في العلاقات بين البشر والمحبين، حتى إذا ما وقع المتلقي في "الفخ" انتصبت أمامه شياطين التساؤلات المحيّرة: من رغيف الخبز حتى البحث عن علّة الوجود!

فالرسالة، كما يوحي الاسكتش الغنائي، هي من عاشقٍ إلى حبيبته. لكن هذا يتمّ إيحاءً من دون البتّ والحسم بموضوع ومضمون الرسالة. إيحاءات من شأنها توريطنا "بالبحث عن الحقيقة"، والحال أننا لا نراها ولا نقرأ نصّها، وإنما نندفع خلف تخميناتنا وتقديراتنا وتحليلاتنا، وربما خلف أوهامنا التي نشتقّها من رغباتنا أو من احتياجاتنا أو من قهرنا التاريخي، أو جراء الظلم الواقع علينا! ثمة الكثير جدا في دواخلنا يدفعنا لأن "نوقن" كي نرتاح من "جهلنا" ونركن إلى معرفة، ثم نكتشف فيما بعد كم كانت مخاتلة!

سنظل -مثل أبي سلمى- نتساءل عمّا يمسّنا ويعنينا ويجري من حولنا، وسنبقى نلحّ في طلب الجواب "الحقيقي والأخير" عن تخلّفنا مثلاً، وسنبحث عن منفذ للخروج من لعنة الدوران الفارغ والعبثي الذي وقعنا في شراكه

ورغم أن أبا سلمى -في العمل الغنائي الفني- فلاح أميّ بسيط، فإن الرسالة تعنيه وتمسّه بالذات -لأنها مُرسلة لابنته الشابّة!- فلا هو قادر على صرف النظر عنها، ولا هو بمتمكّن من معرفة موضوعها بسبب تعدد القراءات لها.

ستبقى الحلقة مفرغة أمامه من دون أن تكتمل أو تمتلئ بالإجابة النهائية.. كما سنجد أنفسنا، نحن أيضاً، أمام حلقات مفرغة مماثلة من حيث فقدانها للإجابات الأخيرة عنها!

سنظل -مثل أبي سلمى- نتساءل عمّا يمسّنا ويعنينا ويجري من حولنا، وسنبقى نلحّ في طلب الجواب "الحقيقي والأخير" عن تخلّفنا مثلاً، وعن أنظمة الحكم الأنسب لمجتمعاتنا، وعن طرائق خروجنا من عصور الظلمات والاقتتال والتمزق.. سنبحث عن منفذ للخروج من لعنة الدوران الفارغ والعبثي الذي وقعنا في شراكه.

وحتى حين ينهض الناس -أخيراً!- في غير بلدٍ عربي على غرار شعوبٍ سبقتنا إلى النهوض والتحقّق، سنجد "قرّاء" الحدث الكبير يختلفون ويتباينون ويتعارضون في قراءاتهم "للنصّ" من أقصى الغبطة والنشوة إلى أقصى الخيبة وانقطاع الرجاء عمّا إذا كان محتوى "الرسالة" ثورة أم انتفاضة، أم هبّة، أم صحوة عابرة، أم مشاغبة غوغاء، أم تنفيذاً لمخطط خارجي… إلخ.

وسيقدّم كل قارئ أدلّته وبيّناته التي -كما يراها- لا يرقى إليها شك أو ينال منها طعن! لكننا لن نكفَّ عن السعي إلى "المعرفة" فنستعين بقرّاء آخرين كي يفكّوا لنا طلاسم المنصوص في "رسائل" حياتنا الأخرى، ولكن.. عبثاً سنبحث عمّن يقرأ المكتوب في "الرسالة" لا عمّن يخبر عن المدّون في نفسه أو موقعه أو رأيه أو اهتمامه أو مصلحته أو حزبه أو طائفته.

وسيندفع الكثير من المفكرين والمحللين والمفسرين وعلماء التاريخ والآثار واللغات القديمة والشعوب المنقرضة والأخرى التي في طريقها إلى الانقراض كي يقرأ كل واحد منهم النصَّ، فلا نجني غير "نصوص" متباينة، ومتحاربة أحيانا، يزيد عددها على عدد أصحابها!

حتى حين ينهض الناس -أخيراً!- في غير بلدٍ عربي سنجد "قرّاء" الحدث الكبير يختلفون ويتباينون ويتعارضون في قراءاتهم "للنصّ" من أقصى الغبطة والنشوة إلى أقصى الخيبة وانقطاع الرجاء

الحال نفسها ستتكرر في حقل الثقافة والفن والأدب، وبصورة أشدّ، إذ لا مرجعية هنا لصواب الذائقة على الأرض سوى "الأغلبية" وهي ليست مصدراً للثقة (على غرار الشرب من ماء نهر الجنون لتوفيق الحكيم) فتطالعنا "قراءات" متعارضة كلياً: من تقديس عبقرية شكسبير مثلا إلى اعتباره كاتبا دون المتوسط في المستوى، على حدّ ما جاء في كتاب لتولستوي!

ألأن الرسالة -في الأصل- ورقة بيضاء يملؤها القرّاء؟ ربما يكون "اللغز" في الورقة ذاتها، أو في الأفراد أنفسهم، أو في طرائق القراءة، أو في مجهولٍ لم يُتحْ لنا أن نكشف عن سره.. بيد أن " الرسالة" تلازمنا من أصغر شأن في حيواتنا إلى أكبر شأن، والتساؤل عن نصّها "الحقيقي والأخير" يساورنا ويلح علينا طوال الرحلة!

وإني لأحسب أن مؤدى الاسكتش الغنائي لا يهدف إلى القول إن الحقيقة مفقودة، وإن علينا أن نكون من أتباع مدرسة "اللاأدريين" الفلسفية، بل إن عمل الأخوين رحباني يتركّز فيما أعتقد -كما حال كل فن عظيم- في بؤرة إثارة التساؤلات، والتوجسات، والشك، ينهل منها ليدفع بنا جميعا إلى المضي نحو أرض اليقين، أو ما نخال أنها أرض اليقين الصلبة.
______________
كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة