هواجس التنمية الثقافية في ندوة بصنعاء
حديث خارج المعقول
وتساءل الشاعر محمد فائد البكري في مداخلته: هل التنمية الثقافية قرار حكومي أم خيار فردي؟ مشيرا إلى أنه لا يمكن الحديث عن التنمية الثقافية في المشهد اليمني قبل تحديد ماهية الثقافة لا من المصادر الأكاديمية، وإنما من عمق الوجع، مشددا على أن وجود التنمية الثقافية متوقف على أمرين: تنمية الفرد، ووجود الدولة.
ولأن تنمية الفرد متعثرة بسبب الهم الاقتصادي الذي يفرض على الإنسان اليمني الاستغراق في اليومي والعابر، والنظر إلى الثقافة على أنها كمالية تقبل التأجيل وفقا للبكري، فإن الحديث عن التنمية الثقافية بالنسبة للفرد يصبح حديثا خارج المعقول.
أما وجود الدولة -حسب الشاعر اليمني- فيُقصد به حضور الدولة بمنجزها المعرفي في المشهد الثقافي، وهذا الأمر لا يمكن الإقرار بوجوده في الحالة اليمنية، حيث ترتفع نسبة الأمية، وفي ظل مناهج تعليمية متخلفة وواقع أكاديمي يعاني خواء معرفيا، وغياب البنية الثقافية التحتية وغياب دور المثقف الفاعل.
كما لا يمكن الحديث عن أي تطوير ثقافي بمعزل عن المكون المعرفي لهذه الثقافة وفقا للبكري الذي أشار أيضا إلى أن المكونات المعرفية للثقافة اليمنية تقليدية ونمطية، وموروثات مسلَّمة تُستدعى إلى دائرة الهم الثقافي باجترار رتيب.
ويرى الشاعر اليمني أن المؤسسة الثقافية اليمنية -سواء الرسمية أو المدنية- مؤسسة نخبوية ولا يمكن اعتبارها كيانات منتجة ثقافية، في وقت يتحدث فيه العالم عن النهضة الثقافية، ونظرية التنوع الثقافي الخلاق، وتسليع الثقافة، وصناعة المعرفة.
ومقابل هذا البعد الثقافي المرتبط بالاقتصاد والتنمية بجميع صورها، ما زال مفهوم الثقافة في اليمن والوطن العربي -كما يراه البكري- محصورا في الكاتب والشاعر، مما أوقع المؤسسة الثقافية في فخ النشاط الاحتفائي، وتكريس أسماء بعينها تكريسا يقوم على الفرز الشللي والأيدولوجي، وبذلك تحولت الثقافة إلى قبائل متنافرة، وتحول المثقف العربي إلى كيان افتراضي يدل عليه الدور الباهت الذي ظهر به أثناء ثورات الربيع العربي، كما يبرز البكري.
الاستخدام والاستهداف
وفي مداخلته رفض الشاعر السعودي محمد الألمعي مصطلح التنمية الثقافية، مبررا رفضه بأن التنمية تستخدم الإنسان بينما الثقافة تستهدفه، مشيرا إلى أن العالم تناول هذا المصطلح بخجل شديد منذ عام 1970، حينما عقدت اليونسكو مؤتمرا خجولا حول التنمية الثقافية.
وهذه المسألة الشائكة تحوي عددا من المفارقات وفقا للشاعر السعودي، أبرزها أن هذا المصطلح كان أثناء الحرب الباردة يعني الأنظمة الشمولية كما في الصين والاتحاد السوفياتي حيث التعسف على الناس أفرادا وجماعات، وتحويلهم إلى آلات إنتاجية مملوكة لها.
والمرحلة الراهنة كما يراها الألمعي تستدعي إعادة النظر في مفهوم التنمية الثقافية، بعيدا عن الأنظمة التي تسعى لحوكمة الثقافة وتحويل المجتمع إلى قطعان ثقافية متناحرة، عبر فرض نماذج الاستتباع الأيدولوجي والطائفي، وهو المعول الأشد فتكا في تدمير الهوية والوجود.
ويؤكد الألمعي أن ما حدث من انتعاشات مختلفة في الدول العربية خلال العقود الماضية ليس تنمية وإنما هو نمو متقطع، ذلك أن التنمية تعني الديمومة والتراكم والاستمرار، داعيا المجتمعات العربية -ومنها المجتمع اليمني- إلى إيجاد مؤسسات مدنية تعمل على إعادة إنتاج المعرفة، وتسليع اقتصادات الثقافة، مؤكدا أن كبرى اقتصادات العالم اليوم تتحرك في دائرة محورها الثقافة.
ويضرب البكري على ذلك مثالا بجهاز الهاتف المحمول الذي لا يتجاوز سعر مواده الخامة دولارين، لكنه يباع بعد تصنيعه بمئات الدولارات هي ثمن المعرفة التي استدوعت هذا الجهاز، مؤكدا أن الهويات الصغيرة ما لم تنفتح بفاعلية على ثقافة العولمة فإنها ستؤول إلى أحد المصيرين: إما أن تلتهمها هويات أكبر منها، أو أن تعيش كجزر معزولة بعيدة عن العصر.