مقامات الهمذاني بلغة موليير

صورة الغلاف : وهي الترجمة الفرنسية لمقامات بديع الزمان الهمذاني

الترجمة الفرنسية لمقامات بديع الزمان الهمذاني (الجزيرة نت)

أنطوان جوكي-باريس

تكمن ميزة ترجمة مقامات بديع الزمان الهمذاني (٩٦٧-١٠٠٨م) للمترجم الفرنسي القدير فيليب فيغرو في قيمتها الأدبية الكبيرة، مقارنة بالترجمات الأخرى، حيث سعى المترجم للحفاظ على روح النص الأصلي عبر مقارنة مصادر ومخطوطات مختلفة، ومنحنا ترجمةٌ فرنسية تحترم قدر المستطاع هذا الأثر الأدبي الفريد.

وفي مقدمته لهذا العمل -الذي صدر عن دار "أكت سود" (سلسلة "سندباد")-  يشير فيغرو إلى أن مقارنته النسخ المختلفة المتوفّرة من هذا  الكتاب بيّنت له، إلى جانب الأخطاء الواضحة، وجود عدد من الاختلافات المتفاوتة الحجم بين نسخة وأخرى، على مستوى الشكل أو النص.

وتبقى هذه الإختلافات، على أهميتها، طفيفة مقارنة بتلك الملاحَظة في "ألف ليلة وليلة" مثلا، وتتعلق بتفاصيلٍ صغيرة لا تؤثّر على البنية السردية للنص، كالاختلاف في ترتيب المقامات بين نسخة وأخرى من الكتاب، ولكن أيضا في عناوينها، الذي يرده فيغرو إلى صدور هذه المقامات غالبا على شكل "مقتطفات"، مما سمح للناشر-الناسخ بالتصرّف في ترتيبها وعنونتها.

ويرى فيغرو أن نص الهمذاني الذي لم يخضع لتحقيق دقيق، كنصوص المقامات التي كتبت بعده، دخل في تلك الحركية التي تميز نصوص القرون الوسطى، لكن بدون أن نتمكن بعد من معرفة إن كان ثمة تدخل بالحذف أو الإضافة في إحدى مراحل نقله.

من هنا، جاءت -حسب فيغرو- ضرورة وضع إصدار نقدي لهذا النص يجمع، إلى جانب المصادر التي اعتمدها بنفسه، المخطوطات الأخرى المبعثرة بين كامبريدج وبرلين ونيويورك وإسطنبول وطهران ودمشق وعدن والقاهرة.

وبشأن مسألة عدد المقامات الذي حدّده الهمذاني شخصيا بأربعمائة وتبعه كاتبو سيرته في ذلك، يرى فيغرو أن هذا الرقم هو أسطورة لاستحالة إعطاء سبب مقنع يفسر إهمال ذاكرة العرب أو نسيانها أو رفضها ٣4٨ مقامة، علما بأن المقامات التي وصلت إلينا هي 52، ولم تتضمن أي نسخة من الكتاب جميع المقامات.

تمثل مقامات بديع الزمان الهمذاني وثيقة تاريخية تلقي ضوءا كاشفا على حياة عصره ورجالاته

وثيقة تاريخية
أما شهرة كتاب المقامات فتعود إلى ابتكار الهمذاني فيه فنا أدبيا جديدا (المقامة) لجأ إليه أدباء كثيرون بعده دون أن يتمكنوا من مقارعته، وأشهرهم الحريري وناصيف اليازجي.

والمقامة هي حكاية قصيرة متفاوتة الحجم مكتوبة بنثرٍ مقفى، بطلاها شخصيتان خرافيتان: الراوي عيسى بن هشام الذي يظهر بحلة الساذج المتيسر، والشحاذ الداهية أبو الفتح الإسكندري الذي يظهر في كل مرة بملامح مختلفة ويتمكن بثقافته الواسعة وفصاحته وقدرته على قرض الشعر من معالجة مآزق حياته وبلوغ مقصده.

وبين واقعية اللغة والجانب الهزلي للحالات الموصوفة، تتجلى الدعابة كميزة رئيسية لجميع المقامات، إلى جانب كشف مركز لهشاشة وضع الشاعر وحاجته الثابتة لمحسنين عليه.

لكن أهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في طرافته ونبرته الإنسانية المؤثرة، بل أيضا في احتوائه معلومات غزيرة حول مواضيع مختلفة. فالهمذاني وضعه في الأساس لغاية تعليمية فأكثر فيه أساليب البيان وبديع الألفاظ والعروض، بموازاة سرده علينا أخبارا عن الشعراء، كما في المقامتين الغيلانية والبشرية، وتزويدنا بمعلومات ذات صلة بتاريخ الأدب والنقد الأدبي، كما في المقامات الجاحظية والقريضية والإبليسية، وتقديمه حججا في المذاهب الدينية، كما في المقامة الرستانية.

وأثناء تنقّله الجغرافي والثقافي الثابت داخل هذا العمل، نجد الهمذاني أيضا يستشهد بالقرآن الكريم والحديث الشريف ويلجأ إلى الاقتباس من الشعر القديم والأمثال القديمة والمبتكرة.

وتفسر جميع هذه المميزات تحول مقاماته إلى مجلس أدب وأنس ومتعة. إذ كان يلقيها في نهاية جلساته كأنها "ملحة" من "ملح الوداع" الذي اشتهر به حيان التوحيدي. وقد راعى فيها بساطة الموضوع وأناقة الأسلوب وجعلها وسيلة للتمرن على الإنشاء واستكشاف مذاهب النثر والنظم، ومرجعا للحكم والتجارب عن طريق الدعابة، ووثيقة تاريخية تلقي ضوءا كاشفا على حياة عصره ورجالاته.

المصدر : الجزيرة