أمجد ناصر يكتب: إذا فسد الملح

لمقال الكاتب أمجد ناصر للملح - تاريخ عريض من القوة والطبقية الاجتماعية عبر مسيرة التحضر الإنساني، بل يمكن القول إن تاريخ الملح هو نفسه تاريخ الإنسان

أمجد ناصر

"أنتم ملح الأرض، فإن فسد الملح بماذا يُملّح"، هذه الكلمات المنسوبة إلى السيد المسيح هي أشهر قول رمزي مأثور بخصوص الملح، ونحن نتعامل مع الملح عشرات المرات في اليوم، إذ يندر أن نأكل ولا يكون للملح حضور في طعامنا. ولكننا نادرا ما نفكر بالتاريخ العريض الذي تنطوي عليه هذه المادة الحيوية، بما سال عليها أو حولها من مداد ودم، وما رافقها من خطى ورحلات وتدخلات في سبيلها إلى أن انتهت مجرد مادة "عادية" لا تبعث على تساؤل أو تفكير، اللهم إلا من الجانب الصحي!

لكن للملح بعدا آخر غير ما نعرفه اليوم عن فوائده ومضاره على الصحة، وغير ما يجعل هذا المسحوق الأبيض مادة لا يكون الطعام طعاما، عند كثيرين من دونها.

لا نفكر، بطبيعة الحال ونحن نرش الملح "أتوماتيكيا" على طعامنا بتاريخ هذه المادة، كما أننا لا نصادف عناء في الحصول على الملح أو شرائه، فهل هناك اليوم أكثر شيوعا ورخصا من الملح؟ غير أن الأمر لم يكن كذلك البتة.

حروب نشبت، طرق شقَّت، صراعات احتمدت وخبت، أرض اكتشفت، قوافل سُيّرت، مراكب مخرت عباب البحار، قصائد وأعمال أدبية وضُعت، طقوس دينية أُديت، رسائل دبلوماسية بين ملوك وأباطرة كُتبت، كان الملح سببها الأول

للملح تاريخ عريض من القوة والطبقية الاجتماعية عبر مسيرة التحضر الإنساني، بل يمكن القول إن تاريخ الملح هو نفسه تاريخ الإنسان منذ بدأ الزراعة وتدجين الحيوانات، وتجاوز الحاجة إلى شيء من الرفاهية.

حروب نشبت، طرق شقَّت، صراعات احتمدت وخبت، أرض اكتشفت، قوافل سُيّرت، مراكب مخرت عباب البحار، قصائد وأعمال أدبية وضُعت، طقوس دينية أُديت، رسائل دبلوماسية بين ملوك وأباطرة كُتبت، كان الملح سببها الأول.

وقد اقترن الملح بالمعبد كما اقترن بموائد الأباطرة والأثرياء. كيلَ بالذهب مرة وقويض بالمعادن النفيسة مرة أخرى. الملح والسكر هما المادتان الغذائيتان الأكثر تناولا وشيوعا على امتداد العالم اليوم، لكن تاريخ الملح لا يشبه تاريخ السكَّر.

ورغم أن بلادا بأكملها استعمرت بسبب السكر وشعوبا اقتيدت إلى العمل عبيدا في حقول القصب السكري، إلاّ أن اقتران الملح بتاريخ القوة والصراعات بين الأمم أقدم بما لا يقاس. هذا ما طالعته في كتاب موسوعي عميق وطريف في آن، وضعه الكاتب مارك كورلانسكي عن الملح وصدرت ترجمته إلى العربية عن دار الساقي في لندن.

***
عندما نتكلم عن ارتباط الملح بتاريخ القوة وتاريخ المقدس، يبدو الأمر محمولا على المجاز أكثر مما هو محمول على الواقع. فهل يمكن أن يكون للملح هذا التاريخ؟

تاريخ البشرية، للأسف، هو تاريخ صنعه الواقعيون العمليون لا أصحاب المبادئ والأخلاق. ولكن علام دار الصراع في البلاط الصيني بين الكونفوشيين ودعاة الالتزام بحرفية القانون؟ على الملح!

ولكن ألا يذكرنا تحذير القادة البريطانيين في القرن السابع عشر من مخاطر الاعتماد على ملح البحر الفرنسي، بتحذيرات القادة الغربيين اليوم نفسها، من مخاطر الاعتماد على النفط العربي؟

ولكن هذا التحذير البريطاني متأخر جدا في الجدل السياسي والاقتصادي حول الملح، فسجلات التاريخ تحفظ لنا سجالات أقدم وأعمق جرت في بلاط أباطرة الصين ترقى إلى عهد كونفوشيوس.

كان كونفوشيوس، وأتباعه من بعده، يركزون على الجانب الأخلاقي للحكم، فيما ظهرت مدرسة فكرية جديدة ذات طابع عملي سميت "الالتزام بحرفية القانون"، رأى أتباعها أن الأخلاق لا تتعارض مع إصلاح المؤسسات الحكومية والقانون الوضعي.

بدا الصراع شاقا كالعادة بين الأخلاقي والواقعي، الأخلاقي يتمسك دائما بالمبادئ، والواقعي يركز على ما هو عملي. ويخبرنا التاريخ أن الواقعيين هم الذين ترجح كفتهم في صراع كهذا، فقلما تنتصر المبادئ على المصالح.

فتاريخ البشرية، للأسف، هو تاريخ صنعه الواقعيون العمليون لا أصحاب المبادئ والأخلاق. ولكن علام دار الصراع في البلاط الصيني بين الكونفوشيين ودعاة الالتزام بحرفية القانون؟ على الملح!

فقد تصدى أتباع كونفوشيوس لدعاة الالتزام بحرفية القانون عندما طرحوا أمام الإمبراطور مشروع قرار لتأميم الملح. كان ذلك، على ما يخبرنا الكتاب، أول عمل احتكاري تقوم به الدولة عبر التاريخ في تأميم واحدة من المواد الحيوية.

شكلت ضريبة الملح مصدرا ماليا يماثل مصادر الدول العربية الخليجية اليوم من البترول، لكن ذلك صنع أيضاً طبقة من الأغنياء مقابل إفقار شامل للشعب

هكذا ظهرت "ضريبة الملح" في البلاط الصيني التي سيتردد صداها لاحقا في إمبراطوريات جاءت بعدها، كان آخرها الإمبراطورية البريطانية في صراعها مع غاندي وحركة التحرر الهندي.

وبالعودة إلى بلاط الصين مرة أخرى، نقول إن احتكار الدولة لمادة الملح درَّ عليها عائدات كبيرة مكنتها من بناء جيش ضخم وشق الطرق التي جمعت بين أرجاء الصين المترامية الأطراف، بل بناء سور الصين العظيم!

وتحفظ لنا السجالات التي دارت بين أصحاب المدرستين الفكريتين في بلاط الصين جملة اقتبسها أحد مناهضي ضريبة الملح، تقول: "لا ترزح أي دولة تحت طائلة الفقر المدقع بقدر ما يحدث عندما تبدو ملأى بالأغنياء".

وقد شكلت ضريبة الملح مصدرا ماليا يماثل مصادر الدول العربية الخليجية اليوم من البترول، لكن ذلك صنع أيضا طبقة من الأغنياء مقابل إفقار شامل للشعب.

***
وسيشكل الملح أهمية مماثلة في الإمبراطورية الرومانية، لكنها لم تسع إلى احتكار الملح، بل إلى توفيره وضبط أسعاره.

ويبدو أن تاريخ تأسيس المدن الرومانية مرتبط بالملح أيضا. فقد بنيت معظم هذه المدن بالقرب من الملاحات، بما في ذلك عاصمة الإمبراطورية روما، وللتقرب من شعبها كانت حكومة الإمبراطورية تسعى إلى توفير الملح وخفض أسعاره، وهو عمل يشبه -كما يقول الكاتب- خفض الضرائب التي تقوم بها الحكومات المعاصرة للفوز في الانتخابات أو نيل الشرعية.

ولمعرفة أهمية الملح في تاريخ الإمبراطورية الرومانية يكفي أن نذكر أن أكبر الطرق التي شقت في إيطاليا عرفت بطرق الملح (Via salaria)، وهي تربط بين روما والأجزاء الداخلية لشبه الجزيرة الإيطالية.

وقد كان الجنود الرومان يتقاضون رواتبهم -أحيانا- على شكل حفنات من الملح، ومن هنا أصل الكلمة (Salary) أي راتب. وقد تحولت كلمة (Sal) اللاتينية -كما يذكر الكاتب- إلى الكلمة الفرنسية (Solde) التي اشتقت منها كلمة(Soldier) أي جندي.

وفي الإنجليزية واللغات المشتقة من اللاتينية، يعود أصل مصطلح جندي (Soldier) إلى كلمة الملح. فهل هناك ارتباط أوثق وأكثر دلالة بين الملح وتاريخ القوة والسيطرة في العالم؟

***

رغم أن بلادا بأكملها استعمرت بسبب السكر وشعوبا اقتيدت إلى العمل عبيدا في حقول القصب السكري، إلاّ أن اقتران الملح بتاريخ القوة والصراعات بين الأمم أقدم بما لا يقاس

لكن للملح علاقة بالمقدس أيضا. ففي الأديان السماوية الثلاثة هناك ذكر للملح، كما أنه موضع اعتبار في الأديان الوثنية والأحيائية، وذكره واعتباره مقترنان غالبا بالطهارة والنقاء ودرء الأرواح الشريرة.

ونعيد هنا التذكير بقولة السيد المسيح آنفة الذكر. ويقرن المسيح في موعظة الجبل الملح بالنور، والصلة واضحة بين العنصرين.

وينسب البغوي في تفسيره إلى عبد الله بن عمر هذا القول "إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح". وهذه كما نرى أبرز العناصر التي تقوم عليها حياة الناس.

إذن، فإن الملح يقترن بالطهارة مرة ثم بالنقاء مرة أخرى، وبالداء والضرورة، والداء هو أيضا فساد في جسم الإنسان كما هو فساد في الأرض التي لا يطهرها ويعيد إليها عافيتها سوى الملح.

فهل موجات "الربيع العربي" المصبوغ بعضها بالدم هي ملحنا هذه الأيام، الملح الذي تُطهّر به الأرض مما عاثه فيها فساد الحكام؟ هذا ما نأمله.. بل هذا ما يبشرنا به شباب الثورات والانتفاضات العربية.

المصدر : الجزيرة