شعار قسم مدونات

إبادة غزة.. الحملة الأكثر همجية في التاريخ الحديث!

غالبية-مستشفيات-غزة-خرجت-عن-الخدمة-والبقية-تعاني-قلة-الامكانيات-للتعامل-مع-الأعداد-الهائلة-من-جرحى-الحرب-رائد-موسى-رفح-الجزيرة-نت
أدركت إسرائيل ولأول مرة أنها تواجه تحديا وجوديا حقيقيا غير مسبوق بسبب طبيعة المعركة التي غيرت قواعد الصراع ولهذا كانت هجمتها بهذه البشاعة (الجزيرة)

يتفق المؤرخون على أن الحرب العالمية الثانية كانت أكثر الحروب دمارا ودموية في التاريخ البشري، فقد مات فيها أكثر من خمسين مليون إنسان، وتسببت بدمار غير مسبوق في جميع أنحاء المعمورة، واستخدمت فيها أسلحة لم تستخدم في الحروب التي سبقتها، وصولا إلى القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما أميركا على اليابان في نهاية الحرب.

في تلك الحرب كانت طبرق تقع على أحد خطوط الصراع فاصلة بين منطقة النفوذ البريطاني شرقها ومنطقة النفوذ الألماني غربها، وبسبب موقعها ذاك فقد تعاقب عليها الطرفان مرات عديدة، فكانت كلها ساحة حرب باستثناء المستشفى الذي أنشأه البريطانيون، فقد استمر يتابع عمله طول الوقت غيرَ عابئ بالحرب التي تجري خارجه ومن حوله.

دفعت إسرائيل ثمنا باهظا مقابل هذه التصرفات الهمجية وضحت بالسمعة الزائفة التي أنفقت ثمانين عاما في بنائها وتكريسها في الإعلام العالمي والعقل الجمعي الغربي

وذات مرة وفي جولة من جولات الغلبة الألمانية دخل الجنرال رومل إلى المستشفى البريطاني الذي كان يستقبل ويعالج جرحى الطرفين. قال الراوي: عندما ظهر الجنرال الشهير المرهوب بالباب خيم الصمت على الجميع، وراح يحدق إلى أسرة الجرحى، ثم اقترب من جندي ألماني جريح وسأله سؤالا مقتضبا وأصغى إلى رده بانتباه، ثم راح يمشي بين صفوف الأسرة ويسأل غيره من الجرحى الألمان، وأخيرا أومأ إلى الضابط البريطاني وقال: "يخبرني رجالي أن علاجهم لا يختلف عن علاج جرحاكم البريطانيين وأن الأدوية آخذة بالنفاد. سآمر بإرسال كل ما تحتاجون إليه من الأدوية ولوازم العلاج، فاستمروا في عملكم ولن يزعجكم أحد". وتحقق ما وعد به، وبقي المستشفى سالما لم يمسه أحد، يقدم خدماته للطرفين في النصر والهزيمة على السواء.

لقد حظي الجهاز الطبي بمنزلة عالية في العالم الغربي حيث جرى العرف على تحييد هذا القطاع وعدم التعرض للعاملين فيه أثناء الحروب، ونحن نعلم أن إسرائيل حرصت -منذ ولادتها المشؤومة- على تكريس فكرة انتمائها إلى العالم الغربي والتظاهر باعتناق منظومته الأخلاقية في السلم والحرب، فلماذا ضربت عرض الحائط بتلك السياسة التاريخية في الحرب الأخيرة؟ لماذا ارتكبت المجازر في مستشفيات غزة وفتكت بالطواقم الطبية وتجاوزت كل المعايير الإنسانية والأخلاقية على عين العالم وتحت سمعه وبصره؟

لقد دفعت إسرائيل ثمنا باهظا مقابل هذه التصرفات الهمجية وضحت بالسمعة الزائفة التي أنفقت ثمانين عاما في بنائها وتكريسها في الإعلام العالمي والعقل الجمعي الغربي، فقبل ثلاثة أسابيع نشرت صحيفة "إيكونومست" مقالة مهمة ركزت فيها على الآثار العميقة التي ستعاني منها إسرائيل وجيشها بسبب حربها الوحشية في غزة، وجاء في المقالة: "لقد خسرت إسرائيل معركة الرأي العام العالمي، وفشل الجيش الإسرائيلي في حربه في غزة إستراتيجيا وعسكريا وأخلاقيا وتصرف بطريقة غير أخلاقية خرقت قوانين الحرب".

ومنذ أيام قليلة تحدثت جريدة "يديعوت أحرونوت" بمرارة عن استطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة وأوروبا التي أظهرت تراجعا هائلا في شعبية إسرائيل، ونقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم "إن الضرر الذي تعرضت له سمعة إسرائيل وصورتها في الأشهر الأخيرة سيتطلب إصلاحه عقودا من الزمن".

كما نشرت "الجزيرة نت" قبل بضعة أيام مقالة لكاتبة إسرائيلية بعنوان "خسرنا الجامعات الأميركية، وقد نخسر الدعم الرسمي"، أكدت فيها فشل إسرائيل الكبير في إدارة معركة العلاقات العامة، وعبرت عن أسفها الشديد لأن الصورة النمطية الجديدة في أوساط الشباب الأميركيين تربط بين الصهيونية والقمع والإمبريالية، وأشارت إلى استطلاعات الرأي التي عبر فيها أكثر من نصف شبان أميركا عن دعمهم للفلسطينيين، وقالت الكاتبة إن هؤلاء الشباب الذين يلوحون الآن في جامعات البلاد بلافتات "من النهر إلى البحر" سيكونون في مجلس الشيوخ والمحاكم وقيادة الشركات الكبرى في المستقبل.

حرك طوفان الأقصى التاريخ الراكد، والتاريخ كائن جبار يتحرك ببطء، ولكنه إذا تحرك مضى قدما لا توقفه قوة الإنسان كائنا من كان، فيحصد في طريقه دولا وجماعات ويعيد هندسة الأرض وتوزيع القوى ويرفع أقواما ويضع آخرين..

لماذا صنعت إسرائيل ذلك في حربها الهمجية على غزة؟ لماذا ارتكبت أبشع المجازر في مستشفى الشفاء وغيره من المستشفيات؟ لماذا أعدمت المرضى والممرضين والأطباء؟ وقبل ذلك وبعده: لماذا قصفت المدارس ومراكز الإيواء وقوافل الإغاثة؟ لماذا هدمت البيوت على ساكنيها من النساء والأطفال؟ لماذا دمرت أربعة أخماس القطاع واستأصلت بنيته التحتية؟

لقد صنعت ذلك كله لسبب واحد، لأنها أدركت -لأول مرة منذ تأسيسها- أنها تواجه تحديا وجوديا حقيقيا غير مسبوق، ليس بسبب ضخامة الخسائر التي منيت بها في "الطوفان"، فإن ألف ضحية عدد ضئيل من الناس مقارنة بملايين الإسرائيليين الذين يستوطنون فلسطين السليبة، وإنما بسبب طبيعة المعركة الاستثنائية التي غيرت قواعد الصراع وصنعت اختراقا نوعيا لطبيعة علاقة دولة الاحتلال بشعب فلسطين المحتلة، فإن تلك الصخرة الهائلة التي لبثت مستقرة على شفا الجرف زمانا طويلا قد حركتها أيدي الأحرار، فإن لم توقفها إسرائيل على الفور فسوف تتدحرج إلى مستقرها ولن يقدر على وقفها وردها أحد.

ولكن أنى لهم أن يوقفوا حركة التاريخ؟ لقد حرك طوفان الأقصى التاريخ الراكد، والتاريخ كائن جبار يتحرك ببطء، ولكنه إذا تحرك مضى قدما لا توقفه قوة الإنسان كائنا من كان، فيحصد في طريقه دولا وجماعات ويعيد هندسة الأرض وتوزيع القوى ويرفع أقواما ويضع آخرين، وعندئذ ستفقد دولة الاحتلال قدرتها على البقاء. ولهذا الإيجاز تفصيل قد يأذن الله به في مقالة قادمة بإذنه تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.