شعار قسم مدونات

لمحات من بلاغة القرآن (2)

داعية إسلامي: لهذه الأسباب لا تبدأ تحفيظ أطفالك القرآن بجزء عمّ
نزل القرآن ببيان لا أرق ولا أعذب ببيان سجدت له القلوب قبل أن تسجد له الرؤوس (شترستوك)

كان للكلمة البليغة في نفوس العرب أثر كبير، بل سحر عجيب، يصنع الأعاجيب.

فقد كانت ترفع وتخفض، وتدني وتبعد، وتصلح وتفسد، وتأسو وتجرح، وترفع قوما، وتخفض آخرين، فهي قد ترفع قوما إلى أعلى عليين ببيت من الشعر، كبني حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب، حيث كان يقال لهم بنو أنف الناقة يسبون بهذا الاسم في الجاهلية، وسبب ذلك أن أباهم نحر جزورا وقسم اللحم، فجاء حنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيا، فجعل يجره، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلقب به، وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحطيئة:

سيري أمام فإن الأكثرين حصى .. والأكرمين إذا ما ينسبون أبا

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم .. ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟

فعاد هذا الاسم فخرا لهم وشرفا فيهم.

إذا ما صافح الأسماع يوما

تبسمت الضمائر والقلوب

وقد تخفض آخرين إلى أسفل سافلين، ولعل أبرز مثال عليهم بنو نمير، وكان بنو نمير أشراف قيس وذوائبها، حتى قال جرير فيهم:

فغض الطرف إنك من نمير .. فلا كعبا بلغت ولا كلابا

فما بقي نميري إلا طأطأ رأسه.

إذا هذا أثر الكلمة وعمل الشعر، وهذا هو أثر البيان، فالشعر إذا رضي أرضى، والبيان إذا سمح صافح الآذان وأفرح القلوب، على حد قول السري الرفاء يصف شعره:

إذا ما صافح الأسماع يوما .. تبسمت الضمائر والقلوب

وإذا ما غضب قرع الأسماع وصكها، وجرح القلوب وأدماها:

جراحات السنان لها التئام .. ولا يلتام ما جرح اللسان

قد يلتئم الجرح الذي يجرحه السيف أو الرمح، أما ما يجرحه اللسان فلا يمكن أن يلتئم.

حتى تلك النفوس الكافرة أحنت له الهامات، وكانت تستمع إلى كتاب الله بإصغاء، كانت تستمع إلى كلام الله بتعجب وإعجاب، فلم يملك رؤوس الشرك إلا أن يأمروا غلمانهم بالتشويش والصفير والتصفيق والمكاء والتصدية

بيان القرآن

أردت أن أوضح هذا الأثر العظيم للكلمة البليغة وللبيان، قبل أن أبين: ماذا فعل القرآن بنفوس الذين كانوا أصحاب هذا البيان؟

على هؤلاء القوم نزل القرآن ببيان لا أرق ولا أعذب، ولا أحلى ولا أعلى، ولا أجمل ولا أعظم منه، ببيان سجدت له قلوبهم وأفئدتهم قبل أن تسجد له رؤوسهم وجباههم، ببيان أذعنت له النفوس والأرواح، قبل أن تذعن الأجساد والأشباح.

حتى تلك النفوس الكافرة أحنت له الهامات، وكانت تستمع إلى كتاب الله بإصغاء، كانت تستمع إلى كلام الله بتعجب وإعجاب، فلم يملك رؤوس الشرك إلا أن يأمروا غلمانهم بالتشويش والصفير والتصفيق والمكاء والتصدية، واللغو، فقال فيهم ربنا جل وعلا: ﴿وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾ [فصلت:26].

بل إن بعض رؤوس الكفر كانوا يستمعون القرآن خلسة قال ابن إسحاق‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث‏‏:‏‏ أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا‏‏.‏‏ فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض‏‏:‏‏ لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا‏‏.‏

‏حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا‏‏.‏‏ فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا‏‏.‏‏ حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض‏‏:‏‏ لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود،‏‏ فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا‏‏.‏‏

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها

مشاهد من أثر القرآن

وأريد أن أوجز هذا الأثر في مشاهد أعرضها، تبرز أثر القرآن في نفوس القوم:

  • لبيد مع القرآن

فمن ذلك مشهد واحد من أعظم شعراء العرب، وهو لبيد بن ربيعة العامري، لبيد هو صاحب إحدى المعلقات السبع المشهورات:

عفت الديار محلها فمقامها .. بمنى تأبد غولها فرجامها

وهو قامة من قامات الشعراء العظام، لبيد عندما سمع كلام الله -جل وعلا- أخذ على نفسه ألا يقول شعرا، فما قال في الإسلام إلا بيتا واحدا: الحمد لله إذ لم يأتني أجليثس

وما قال بعده بيتا قط، سكت عن الشعر لأنه أدرك أنه أمام كلام أعظم وأسمى من هذا الشعر، لبيد الذي قال بحقه رسولنا -صلى الله عليه وآله وسلم- أصدق أو أشعر كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل .. وكل نعيم لا محالة زائل

وفي لبيد وسكوته عن الشعر يقول شيخنا الشيخ صالح الفرفور رحمه الله تعالى:

أتيتهم بكتاب الله معجزة .. أخجلت قسا وسحبانا وحسانا

ألقى لبيد عصاه حين أعجزه .. قــول فصيح بآيات لعمرانا

ولم تجد قط في شعر قريحته .. شتان شعـر وآي الله شتانا

هذا البيان الذي تبقى عجائبه .. رغم الأنوف وإن شانوه بهتانا

يريد هذا البيان بيان الله -جل وعلا- في القرآن.

كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة، عرف منها أهل البيت أن عمر قد أسلم.

  • عمر بن الخطاب مع القرآن

ومن ذلك موقف سيدنا عمر رضي الله عنه الذي تحول بسماع القرآن من قاصد قتل إلى طالب هدي، وكان قد استل سيفه وعزم على قتل رسولنا -صلى الله عليه وآله وسلم- فصادفه في الطريق من غير قصده، إذ أخبره أن أخته قد صبأت قائلا له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فغير وجهته، واتجه إلى بيت أخته مغضبا، وهناك، هناك سمع كلام الله يتلى في سكينة وخشوع، سمع آيات بينات من أوائل سورة طه:

﴿طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى * الرحمن على العرش استوى﴾ [طه:1-5].

ثم تلاها بنفسه فخشع لها وخضع، ولان بها قلبه وتأثر، وما لبث أن قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!

واتجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، حيث يجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليعلن إسلامه وهو يقول:

يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.

فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة، عرف منها أهل البيت أن عمر قد أسلم.

وثمة المزيد من هذه المشاهد، نستعرض منها في مقال لاحق إن شاء الله تعالى..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.