بعد مرور ما يزيد على الستة أشهر على الحرب في غزة، لا تزال دهاليز السياسة تعج بالكثير من التصريحات والبيانات، في حين أن الشارع الغربي لا يزال على نفس الوتيرة من الاحتجاج ومحاولات الضغط على الساسة وأصحاب القرار، ولكن وفي ذات المشهد توجد كواليس أخرى لا تقل حراكا عن ما يحدث على الصورة المرئية، إلا أنها تتم بهدوء بعيدا عن الأضواء والصخب المعلن.
قد يتساءل متسائل لماذا لم نشهد تراجعا عمليا في درجة التصعيد، ولماذا لم تنجح مساعي الهدنة حتى الآن، رغم التصريحات السياسية والمواقف المتصاعدة والحراك الضاغط، ولعل الإجابة على هذا السؤال تستدعي التفاتة إلى تلك الكواليس لعلنا نجد فيها إجابة مقنعة يوضح الصورة بشكل كامل.
لقد انتعش سوق السلاح بعد حرب غزة، وأظهرت الأنباء والتقارير صفقات مستمرة بمليارات الدولارات، تربعت على قمتها الولايات المتحدة التي أبرمت ما يزيد عن 100 صفقة بكلفة تعدت المليار دولار.
حرب الإبادة مسرح لسوق السلاح الحديث
تغير الحروب والصراعات اقتصاد الدول، فهي تنعش تجارة السلاح، وتفتح شهية الدول والشركات المنتجة لها، حيث تجد فيها فرصة لتسويق بضائعها، واستعراض جديدها، واختبار النماذج الجديدة منها على أرض الواقع بعض النظر عن الكلفة البشرية والاعتبارات الأخلاقية.
علاوة على ذلك، أصبحت الحروب مسرحا تستعرض فيها الجيوش قوتها وتميزها العسكري وحسن تخطيطها وتكتيكاتها، كما دخلت الشركات الأمنية الخاصة على الخط، فأنشأت أسواقا جديدة لتجنيد المرتزقة وطرحت فرص عمل جديدة جذبت شريحة من الشباب المعدمين والمحتاجين، فزجت بهم في حروب بالوكالة، وقبضت أثمانا باهظة على حساب أرواحهم وسلامتهم.
لقد انتعش سوق السلاح بعد حرب غزة، وأظهرت الأنباء والتقارير صفقات مستمرة بمليارات الدولارات، تربعت على قمتها الولايات المتحدة التي أبرمت ما يزيد عن 100 صفقة بكلفة تعدت المليار دولار، تليها ألمانيا التي زادت صادراتها للسلاح إلى إسرائيل 10 أضعاف، ثم إيطاليا، وتحولت المنطقة المحاصرة التي تضم قرابة مليوني مدني إلى مسرح لتجريب الصواريخ الجديدة والذخائر الذكية الموجهة، وغير الموجهة، والمدافع الحديثة، والصواريخ التي تعمل بالليزر وغيرها.
كما دخل الذكاء الصناعي مجال الصناعات الحربية مؤخرا، وبات مسؤولا عن تحديد بنك الأهداف وتوجيه المقاتلين إليها، إلى جانب نمو سوق الطائرات بدون طيار الصاعد، والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وأنظمة الدفاع التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب ارتفاع الطلب على المعدات العسكرية المتطورة.
لم يكن مصدر أرباح شركات تصنيع الأسلحة من جراء الصفقات المباشرة فقط، بل ساهمت حرب الإبادة في غزة بارتفاع قيمة أسهم هذه الشركات وسط إقبال كبير من المستثمرين لشراء المزيد من الأسهم، وقيام المسؤولين في تلك الشركات ببيع المزيد من أسهمهم الشخصية مقارنة بالسنوات الماضية محققين بذلك المزيد من الأرباح.
وعلى الرغم من الحجة السخيفة التي يتبجح بها مصنعو هذه الأسلحة ومستخدميها، بأن هذه الأسلحة الحديثة هي الأكثر "كفاءة" والأكثر"إنسانية"، وأن بعضها قادر على استهداف الهدف وضربه بدقة جراحية، والدخول من النوافذ دون إحداث أضرار جانبية، قتل في غزة خلال هذه المدة ما يزيد عن 33 ألف مدني 40% منهم من الأطفال.
وأصيب ما يزيد عن 100 ألف آخرين، وفاق عدد الأطفال الشهداء من ضحايا هذه الأسلحة عدد ما قتل في 22 صراعا مسلحا حول العالم خلال 4 سنوات. وهدمت القنابل "الذكية" و "الغبية" غير الموجهة 65% من مساحة القطاع، مستهدفة المدارس والمشافي والمرافق الخدمية.
لقد تسببت العمليات العسكرية الروسية في سوريا إلى مقتل مايقارب 7 آلاف مدني 30% منهم من الأطفال، وارتكبت ما لا يقل عن 360 مجزرة موثقة، إلى جانب 1246 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية من مدارس ومنشآت طبية وأسواق.
نفس المأساة من جديد
لم تكن هذه المرة الأولى التي تنتعش فيها تجارة الأسلحة عقب صراعات في مناطقنا العربية، فلقد اعترف وزير الدفاع الروسي بأن بلاده جربت أكثر من 320 نوع سلاح مختلف خلال عملياتها في سوريا، وأن مشاركتها القتالية ساهمت في تطوير العديد من الأسلحة كالمدرعات وناقلات الجند والطائرات ومنظومات الدفاع الجوي، والصواريخ بعيدة المدى.
كما شاركت مليشيات فاغنر الروسية في القتال في سوريا، وبدأت روسيا لاحقا بتجنيد الشباب السوريين في مليشيات خاصة وإرسالهم للقتال "كمرتزقة" في مناطق أخرى، كليبيا وأذربيجان وأوكرانيا وغيرها، عدا عن القواعد العسكرية التي أنشأتها في سوريا وسيطرتها على بعض فيالق الجيش فيها.
لقد تسببت العمليات العسكرية الروسية في سوريا إلى مقتل مايقارب 7 آلاف مدني 30% منهم من الأطفال، وارتكبت ما لا يقل عن 360 مجزرة موثقة، إلى جانب 1246 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية من مدارس ومنشآت طبية وأسواق، عدا عن استخدامها لأسلحة محرمة دوليا كالقنابل العنقودية والأسلحة الحارقة، متسببة بنزوح قرابة 4.8 مليون مدني وفقا لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
كما أعاقت روسيا في نفس الوقت استصدار أي حل لإنقاذ المدنيين واستخدمت الفيتو 18 مرة في مجلس الأمن، مما ساهم في إطالة أمد الصراع وتغذيته وتعزيز وجودها العسكري والاقتصادي والسياسي في سوريا.
وإلى جانب ذلك، انتعشت تجارة السلاح الروسي إثر هذه المشاركة، فتمكنت روسيا من فتح أسواق جديدة، وعقد العديد من الصفقات العسكرية مع دول عربية كالسعودية، والإمارات، وقطر، وسلطنة عمان، والكويت، والجزائر، ومصر والتي لم تعد على روسيا بمليارات الدولارات فقط، وإنما فتحت الباب أمامها لتطوير نفوذها العسكري في المنطقة من خلال خبرائها.
بين مساعي السلام ودوافع التصعيد
أصدر خبراء في الأمم المتحدة تحذيرات متكررة حول خطورة استمرار نقل الأسلحة إلى إسرائيل على اعتباره انتهاك صريح للقانون الإنساني الدولي، على اعتبار أن الدول الأطراف في معاهدة تجارة الأسلحة ملزمة بتعهداتها خاصة وأن هذه الأسلحة تستخدم لارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب، في إشارة واضحة أن السياسيين القائمين على إبرام هذه الصفقات قد يكونوا مسؤولين جنائيا عن تلك الجرائم.
وإلى جانب جهود الحكومات في تقديم الدعم، كان هناك حراك مدني وقضائي داخل العديد من تلك الدول يحاول إيقاف مساعي الحكومات نحو إبرام صفقات الأسلحة التي تؤجج الصراع، واستصدار الأحكام القانونية التي تلزمها بالتوقف كما حدث في هولندا مؤخرا، وفي حين علقت دول أخرى عمليات التوريد تجاهلت الدول الأكثر دعما لإسرائيل عسكريا كل الأصوات الداخلية والخارجية، وبدا واضحا أن عملية تصدير الأسلحة لإسرائيل مسألة سياسية تخطت القواعد القانونية الملزمة.
ومن جهة أخرى، ساهمت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة برفع التوترات في المنطقة لاسيما في دول الجوار، فقد وسعت "إسرائيل" عملياتها العسكرية باتجاه جنوب لبنان، واستهدفت بغارات متكررة أهدافا وأبنية بالإضافة إلى عدة شخصيات عسكرية قيادية إيرانية في سوريا، كما دمرت مقر السفارة في العاصمة دمشق.
ومع تصاعد الهجمات، وتصاعد الردود الإعلامية، زادت التوقعات بتوسع رقعة الاشتباكات، وتحضرت الدول لهذا السيناريو بالمزيد من الاستعداد والمزيد من التسليح، وهو ما شكل فرصا لأسواق جديدة لشركات السلاح، والتي تعني المزيد من الأرباح، والمزيد من الصراعات المستقبلية المتوقعة، والمزيد من الخسائر البشرية.
يحتاج هذا العالم من شرقه إلى غربه إلى وقفة جادة ومراجعات أخلاقية، فهذه التجاوزات السياسية التي تتخطى الاعتبارات القانونية والإنسانية والحقوقية.
في نفس الوقت الذي تعلن فيه الدول عجزها عن إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، تاركة ملايين البشر ضحايا لقلة الغذاء والدواء والماء الصالح للشرب، كانت هذه الدول قادرة على تقديم إمدادات عسكرية متواصلة ساهمت في زيادة المعاناة وغذت الصراع متجاوزة كل المعايير الأخلاقية والقانونية والإنسانية.
كما أن هذه الحكومات التي تحاضر في الديمقراطية وتتغنى بحقوق الإنسان وتتفضل على الدول النامية بتدريبات لتعليم سكانها مبادئ صناعة السلام وإدارة الصراعات، كانت تدير وبشكل سافر تلك الصراعات تارة وتؤججها تارة أخرى، وتجني من ورائها أرباحا معلنة وأخرى خفية تستمر عوائدها لعقود.
يحتاج هذا العالم من شرقه إلى غربه إلى وقفة جادة ومراجعات أخلاقية، فهذه التجاوزات السياسية التي تتخطى الاعتبارات القانونية والإنسانية والحقوقية، والتي يذهب ضحيتها آلاف الأرواح من المدنيين والأبرياء لن تجلب السلام والأمن للعالم، بل سنغرق جميعا في دوامة الغضب والحقد والانتقام، وسنكون أمام حقبة جديدة من الإرهاب بأشكاله الجديدة التي لن يسلم منها أحد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.