شعار قسم مدونات

عن المستقبل الذي لا نعيشه

4 طرق فعالة تمنع دماغك من التفكير في السيناريو الأسوأ
"ثم ماذا؟" سؤال يبدو للوهلة الأولى سؤالا عن الأحداث لكنه في حقيقته سؤال عن الغايات (بيكسلز)

كثيرا ما يمنعنا التفكير في القادم من العيش في الحاضر، وأقصد بالعيش هنا: الاستمتاع بنجاح أو بلحظة سكون أو حتى بجلسة ممتعة مع صديق أو حبيب.

فلطالما كان سؤال "ثم ماذا؟" مسيطرا على بعضنا، يضعنا في حالة تفكير مستمر بما يجب علينا أن نقوم به "الآن" حتى نحقق المزيد في "المستقبل"، وزاد طينتنا بلة ما شاع في عصرنا من قلق المكانة واكتئاب المقارنات، فأدخلنا أنفسنا ومن حولنا في دوامة لا تنتهي من التخطيط للتالي، تخطيط يتغذى على روح الحاضر ولحظاته ومشاعره، ويستهلك كل ثانية فيه ليجهز نفسه لسراب المستقبل، ذلك الذي إذ نصله يصبح حاضرا ينبغي فيه التخطط للقادم التالي!

لا أقول إن العمل المستمر هو مطلقا أداة للهرب من الذات -وإن كان كذلك في بعض الأحيان-، إلا أنه في النهاية طريقة للإحساس بالمعنى

بطبيعة الحال، لا يمكن الإنكار بأن في التخطيط المستمر والمكابدة المتتالية أسبابا لينتقل الإنسان في المراحل ويراكم الإنجازات، إلا أننا عند كل إنجاز وفي كل تكريم وعند كل ربح لا نكون سعداء كما توقعنا، ذلك أن عقولنا للأسف لم تكن هناك لتنبسط أساريرها بل كانت وقتها قد غادرتنا سائلة نفسها: ثم ماذا؟

"ثم ماذا؟" سؤال يبدو للوهلة الأولى سؤالا عن الأحداث، لكنه في حقيقته سؤال عن الغايات، غاية الإنسان من صرف وقته وجهده، وغاية الإنسان في ألا يجلس فارغا فيصل به عقله إلى عدمية وجوده أو عبثيته. فالفراغ ليس أمرا يمكن التعامل معه بسهولة، لأنه يترك النفس وحيدة مع ذاتها، ومن يجلس مع نفسه كثيرا يعرف حقيقتها وأسرارها، ولربما يكون هذا ثقيلا بل محطما للبعض.

لا أقول إن العمل المستمر هو مطلقا أداة للهرب من الذات -وإن كان كذلك في بعض الأحيان-، إلا أنه في النهاية طريقة للإحساس بالمعنى، فكم تمنى بعضنا ترك عمل يكرهه أو وظيفة تقتله، ثم إذا أنعم الله عليه بتركها وجد نفسه تأكله رغبة في العمل في أي شيء ولأي شيء، لأنه إن تركها فستشعر بأنها لا معنى لوجودها، فقد كانت تعرف نفسها بما تنتجه، وهي الآن لا تنتج شيئا، فهي بذاتها إذا لا شيء.

الأم التي تربي أولادها لم تعد في نظرنا منتجة لأنها لا تنتج مالا، و"ما هو المعنى من توظيف إمام للمصلين؟، ما الذي ينتجه؟"، كما يقول أحدهم.

يعني هذا -صديقي القلق- أن قيمة الإنسان لم تعد مرتبطة بمعنى علوي، بقيمته كمخلوق في رحلة متوجه إلى خالقه، بل صارت متعلقة بالإنتاج، هذا الإنتاج ليس إنتاجا للقيمة أو إنتاجا للجمال، بل هو في عصرنا الحالي إنتاج للمادة، فالأم التي تربي أولادها لم تعد في نظرنا منتجة لأنها لا تنتج مالا، و"ما هو المعنى من توظيف إمام للمصلين؟، ما الذي ينتجه؟"، كما يقول أحدهم.

و"دارسو العلوم الإنسانية عالة على المجتمع فهم لا يقدمون لاقتصاد الدولة شيئا" يقول آخر. قيل هذا الكلام عبر التاريخ بشكل أو بآخر بلا شك، فالماضي أيضا مليء بالماديين الدهريين، إلا أنه بدأ في عصرنا هذا يدخل في تصورنا لذواتنا، ويقود خطواتنا، لأننا صرنا نرى في أعمالنا هباء لا معنى له، ولو كنا نقيم به أود أسرنا، ونحنو به على بعضنا.

أعتقد أننا لنحل هذه الإشكالية في المجتمع علينا أن نأتي عليها في نفوسنا أولا، وهذا بحاجة لنوع من "الطناش" لرغبة النفس في تحقيق المستقبل والتحكم به، وإصرار على قبول الحياة بفوضويتها وسماح لهنات النفس بأن تتسرب لتظهر شخصا حقيقيا خلف ذلك الزجاجي المنجز المتميز. لربما يعطينا هذا السلوك حياة أقل "نجاحا" بالمعيار المادي، لكننا سنكون حينها أكثر سعادة وطمأنينة ورضى، رضى لا يمنعنا عن التقدم إلى الأمام، لكنه يعرف أن الجواب على سؤال "ثم ماذا؟" مهما خططنا واستعددنا ورسمنا، ما هو إلا "الله أعلم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.