شعار قسم مدونات

الفقه بين تعريفين

مدونات - الفقه
نصوص الحدود والعقوبات لا تنفصل عن نصوص التربية والأخلاق لأنه بفقدان التربية تحدث الجريمة (رويترز)

إن انحسار تعريف الفقه من المعنى العام إلى المعنى الخاص، أو من المعنى اللغوي إلى المعنى الفقهي الاصطلاحي، أورث إشكاليات كبيرة في العقل المسلم المعاصر، سواء عند العالم أو المتعلم، فمعنى الفقه في دلالة النصوص الشرعية في القرآن والسنة هو المعنى اللغوي له وهو الفهم الدقيق.

عندما يقول الله تعالى: "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ۚ ذٰلك بأنهم قوم لا يفقهون" (الحشر: 13)، أو يقول: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ۖ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ۚ أولـٰئك كالأنعام بل هم أضل ۚ أولـٰئك هم الغافلون" (الأعراف:179)، وعندما يقول النبي  ﷺ: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وحين يدعو لابن عباس رضي الله عنه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، فإن المقصود هو الدين بالمعنى اللغوي وهو الفهم الدقيق في الدين كله عقيدة وشريعة وأخلاقا، وفقه كل نص مهما كان موضوعه في الكتاب والسنة.

آيات الأحكام الفقهية العملية لا تتجاوز خمسمائة آية، تزيد أو تنقص عن ذلك، وهذه تمثل تقريبا 8% فقط، فهي قسم من ثلاثة عشر جزءا أو قسما من القرآن، لأن عدد الآيات في القرآن 6236 آية

والحال نفسه كان عند الصحابة والتابعين والسلف الصالحين، فقه كان المعنى السائد للفقه هو المعنى اللغوي، لكن الذي حصل بعد ذلك ومع توسع العلوم فقد تم حصر الفقه في مفهوم اصطلاحي خاص لعلم محدد سمي علم الفقه، وهو علم يعنى بمعرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو هو العلم الخاص بأحكام الحلال والحرام، فلا يدخل هذا العلم مثلا في موضوعات العقيدة لوجود علم خاص بها أصبح يسمى علم التوحيد أو الإيمان أو العقيدة أو الكلام، ولا يدخل في موضوعات السلوك والتزكية والأخلاق، لوجود علم خاص بها وهو علم التزكية أو السلوك أو التصوف.

وإلى هذه المحطة لا توجد ثمة مشكلة، فلا مشاحة في الاصطلاح، ومرافقة المعنى الاصطلاحي للمعنى اللغوي مقبول وسائغ في كل العلوم، وأحيانا يكون ضروريا لمصلحة علمية أو تعليمية، لكن المشكلة بدأت تظهر وتتراكم مع مرور الزمان بسبب التركيز على العلم والمعنى اصطلاحي للفقه، خصوصا مع أهمية هذا العلم وحاجة الناس إليه في الاجتهاد والفتوى والتعليم، وربط الوظائف الدينية المرموقة به، لتتبلور عندنا حالة جديدة من الإهمال النسبي لبقية موضوعات الدين وفقه نصوص القرآن والسنة في بقية الموضوعات، ليصبح ربما عندنا فقيه عالي التمكن في الفقه.

لكنه لا يمتلك رأيا أو رؤية في بقية الموضوعات، في العقيدة والإيمان والأخلاق والدعوة وصراع الحق مع الباطل والسنن الربانية وقصص الأنبياء وقيادة المجتمعات وبناء الحضارات والدول، والحقائق النفسية والاجتماعية والكونية وغيرها من الموضوعات، وإن امتلك رأيا أو رؤية فالقصور وعدم النضج من سمات رأيه ورؤيته.

إن آيات الأحكام الفقهية العملية لا تتجاوز خمسمائة آية، تزيد أو تنقص عن ذلك، وهذه تمثل تقريبا 8% فقط، فهي قسم من ثلاثة عشر جزءا أو قسما من القرآن، لأن عدد الآيات في القرآن 6236 آية.

وحتى هذه الآيات نجد فيها معان تربوية وإيمانية في داخلها أو في خاتمتها، فمثلا يقول تعالى: "ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ۚ علم الله أنكم ستذكرونهن ولٰكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ۚ ولا تعزموا عقدة النكاح حتىٰ يبلغ الكتاب أجله ۚ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ۚ واعلموا أن الله غفور حليم" (البقرة :235)، فمع ذكر أحكام خطبة النساء المعتدات، يذكر الله تعالى علمه بعباده وما سيفعلونه، وعلمه بما في أنفسهم.

ويأمر بالحذر والخوف منه، ويذكر بمغفرته وحلمه من خلال ذكر اسمين جليلين من أسماء الله الحسنى وهما الغفور والحليم، وهنا تظهر المشكلة في حصر التفقه في موضوع واحد فحسب كأن الأحكام مجرد قواعد مستقلة ومنفصلة عن بقية الموضوعات.

يحدث للمفتي اشكال كبير وهو يفتي في مسالة في الطلاق مثلا دون أن ينظر للأبعاد النفسية والتربوية والأسرية في هذه المشكلة، فربما استطاع حل المشكل تربويا لا فقهيا

إن الوحي قرآنا وسنة يمنحنا تصورا كاملا ورؤية شاملة للإنسان والكون والحياة، ليمنح المنهاج المتكامل والمتوازن والمنسجم للتعامل معها، فلا يمكننا فصل جانب عن آخر، ولا رؤية في موضوع عن رؤية أخرى في موضوع آخر، لأن نتيجة ذلك هو التجزؤ والتشويش والتشوه وأخذ القرآن عضين، فالوحي لوحة كاملة ذات ألوان متناسقة جميلة، يضيرها ويسيء إليها من أراد رسمها بلون واحد، ثم يفترض أن الجمال كامن فيها.

إن نصوص العبادات والإيمانيات والتربويات لا تنفصل عن نصوص السياسة، فالعبادة والتربية تؤهل لنا السياسي العابد التقي النزيه، وإن نصوص الحدود والعقوبات لا تنفصل عن نصوص التربية والأخلاق، لأنه بفقدان التربية تحدث الجريمة وتترتب العقوبة، وما لم يحدث هذا التكامل فالآثار ستكون وخيمة.

يحدث للمفتي اشكال كبير وهو يفتي في مسالة في الطلاق مثلا دون أن ينظر للأبعاد النفسية والتربوية والأسرية في هذه المشكلة، فربما استطاع حل المشكل تربويا لا فقهيا، وإن هناك مشكلة كبيرة تحدث عندما يحصل التركيز على حد السرقة وهو قد ورد في آية واحدة وبضعة أحاديث. في ظل منظومة الآيات والأحاديث الكبيرة التي وردت في المال، من حيث طرق اكتسابه وتنميته وأثره دوره في الحياة وقنوات الإنفاق والصرف لهذا المال، بينما جاء حد السرقة للحفاظ على هذه المنظمة فحسب.

إن إعادة كتابة المدونات الفقهية مع ذكر مقاصد الأحكام المذكورة فيها، والاستنباطات التربوية المستلة منها، مهم جدا في هذا السياق، وإن التكامل في بناء الفقيه بالمعنى الواسع الذي ذكرناه ليس ترفا ولا نافلة، بل هو ضرورة ماسة لتكامل البناء العلمي المأمول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.