شعار قسم مدونات

الحرف العربي.. من وضع التنقيط إلى استحداث علامات الترقيم!

اللغة العربية
اللغة العربية كائن حي يجمع بين "الانفتاح" و"الاستقلال" سنة قد خلت و"فلسفة" لن تزول (شترستوك)

كانت العربية حروفا غير منقوطة؛ فكان المتلقي يقرؤها بعين الفطرة، ثم دخل التنقيط على خط الخدمة، قطعا للإشكال ورفعا للبس؛ فصار يقرؤها بالعين الباصرة (ومن هنا جاء مصطلح "الإهمال" و"الإعجام")، وقبل ذلك برزت -مع تقعيد النحو- حاجة الناس إلى التشكيل لضبط حركات بعض الكلمات الموهمة؛ دفعا للالتباس، ثم توسع الناس في التشكيل، حتى عمموه في حق الوحيين (القرآن والحديث)؛ فوضعوا الحركات على جميع حروف الكلمات تبركا – فوق الضبط، ثم جاءت بدعة علامات الترقيم الحسنة، فكانت أشبه بالأقراط التي تشنف بها آذان الحسان، والقلائد التي تحلى بها أجيادهن؛ إذ هي حلي ليس من جنس الجسم، وما هو بقطعة من العضو، ولكنه له زينة.

رغم "استجلاب" علامات الترقيم من الثقافة الغربية، فقد جعلها استقرارها في اللغة -واطّرادُها في الاستعمال- كالعادة التي لا تخالف الشرع، وفي اطراحها وإهمالها زهد فارغ.

وقد ألف الناس تلك العلامات المستحدثة -مع الوقت- واهتدوا بها، حتى صارت معالم تنقل معاني الاستفهام والتفسير والتأثر. فكانت -بذلك- بمثابة "الترجمة" لما سماه اللغويون القدامى "حروف المعاني"، فعلامة الاستفهام "؟" ظل لحروف الاستفهام، وشرطة القطع "-" تؤطر فيها الجملة الاعتراضية، وعلامة التأثر "!" توضع فتشعر بالمعاني التي تحتها (من تعجب، وترحم، ودهشة، واستحسان..)، وقد ظلمها من سماها علامة التعجب؛ لأن في ذلك حصرا تعسفيا، إذ التعجب داخل تحت دائرة التأثر لكن الأخير أعم! وليس يخفى دور أقواس الترقيم – على اختلاف مجالات استخدامها السياقية.

ورغم "استجلاب" علامات الترقيم من الثقافة الغربية، فقد جعلها استقرارها في اللغة -واطّرادُها في الاستعمال- كالعادة التي لا تخالف الشرع، وفي اطراحها وإهمالها زهد فارغ. وإني لأعجب لمن يتباهى بتركها والرغبة عنها بعدما استقر اعتمادها، واطرد العمل بها. وفي ذلك تحجير واسع، وتنطع ظالع. فالمنصف الحصيف لا يجرمه صدور هذه العلامات عن "جهة أجنبية"، على ألا يستفيد منها؛ بل هو قمن أن يعتمدها، ولا يزدريها، و "يفعلها"، ولا يرفضها، أن كانت بضاعة غربية!

مثل النص الخالي من علامات الترقيم، كمثل المرأة العاطل (التي ليس في جيدها عقد وما في أذنها قرط) ففيها "جمالية فنية" زائدة.

اللغة العربية كائن حي؛ يجمع بين "الانفتاح" و"الاستقلال"، سنة قد خلت، و"فلسفة" لن تزول

وقد لامني -شخصيا- كثير من الزملاء المخلصين والأصدقاء المشفقين في أمر علامات الترقيم؛ فعدوني متكلفا باستخدامها، ومتزيدا في الاحتفاء بها، لكن موقفي منها كموقفي من تعريب المستحدثات العصرية، واعتماد الآليات التي أقرتها المجامع لذلك الغرض، والتزام ما تواضعت عليه من ضوابط إجرائية ومحددات تنظيمية، يحكمها منهج ناظم، ويوجهها معيار منضبط.

فاللغة العربية كائن حي؛ يجمع بين "الانفتاح" و"الاستقلال"، سنة قد خلت، و"فلسفة" لن تزول، وليس في ذلك تناقض، لكنه سر من أسرار اللغة العربية، فوق التصور المجرد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.