شعار قسم مدونات

عبودية الدوبامين

هرمون الدوبامين يرتبط بشكل وثيق مع شخصية الفرد (غيتي إيميجز)

الإنسان مركب كيميائي، وتؤدي الكيمياء الحيوية دورًا في اتزان الانسان، فهي تتحكم في انفعالاته، وهي التي تشكّل سلوكه. وهذا المقال يتحدث عن تأثير هرمون (الدوبامين).

من المعتقدات الشائعة أن هرمون السعادة هو الدوبامين، ولكن الصواب هو أنه هرمون المكافأة والتحفيز وتوقع السعادة

ما الدوبامين؟

الدوبامين هرمون مرتبط بالمواد الإدمانية؛ كالميثامفيتامين، والكوكايين، وهذه المواد الإدمانية تعمل عند تعاطيها على زيادة معدل الدوبامين في الجسم والدماغ.

ويرتبط هرمون الدوبامين -أيضًا- بشكل وثيق مع شخصية الفرد، وتشير الأبحاث أن الأشخاص من ذوي الشخصية المنفتحة لديهم مستويات دوبامين أعلى من الانطوائيين.

ومن المعتقدات الشائعة أن الدوبامين هو الهرمون المسؤول عن السعادة، والصواب أن هذا الهرمون مهم في التحفيز وزيادة التوقعات المتفائلة؛ وذلك لأنه يحفز الشخص على القيام بخطوات جريئة، ويعطيه شعورًا بالحماسة، ويدعوه للبحث عن اللذة والوصول للسعادة.

ولذلك فعندما نتحدث عن الدوبامين، فنحن نتحدث عن الهرمون المسؤول عن شعورتوقع المتعة، وليس المتعة بذاتها.

 

الحل هو ضرورة وضع عوائق تمنع الوصول للمادة التي تسبب الإدمان، ولذلك يصبح المنع أو التقنين هو الحل ولا توجد حلول غيرهما

تأثير الدوبامين في أجسامنا

كل استجابة عاطفية أو شعورية لها مكوّن سلوكي ومكون هرموني، وفي كتابها "أمة الدوبامين" تحدثت المؤلفة آنا ليمبك، عن سعي الإنسان وراء المتعة، وعن علاقة الدوبامين بالإدمان، لاسيما حينما نوظف الدوبامين في مسار تحفيزي سلبي من خلال وصول مادة الدوبامين لتجارب سلبية تؤدي إلى الإدمان والتأثير السلبي على الصحة والحياة مثل: (القمار، والسجائر والمخدرات، والتسوق، والوجبات الجاهزة والمشروبات الغازية، والإباحية، والألعاب، والهواتف الذكية،…)

والحل هو ضرورة وضع عوائق تمنع الهرمون من الوصول للمادة التي تسبب الإدمان، ولذلك يصبح المنع أو التقنين هو الحل ولا توجد حلول غيرهما، ولذلك نجد أن هناك عددًا من المحرمات التي جاءت بها الشرائع السماوية، رفقًا بالإنسان ومراعاة لضعفه، يقول الله -عز وجل-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، (سورة الملك: 14).

وإذا علمنا أن المنع هو السبيل الوحيد لعلاج إدمان المواد والسلوكيات، فسنعلم حينها أن الهدف من المنع ليس الحرمان من الأشياء التي نحبها، فربما يكون الهدف من المنع هو إعطاؤك ما هو أفضل وأنفع لك، وطلب الجنة -على سبيل المثال- يتطلب الامتناع عن المحرمات والابتعاد عن الشهوات، وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من خاف أَدْلَج، ومَن أَدْلَج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". أخرجه الترمذي: 2450.
و(أَدْلَجَ) يعني: مشى في الدُلْجَة، وهي أول الليل.

وإحصاءات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن حوالي 70% من الوفيات العالمية، هي نتيجة عوامل الخطر السلوكية القابلة للتعديل؛ مثل: التدخين، وقلة النشاط البدني، والنظام الغذائي.

هناك ارتباط وثيق بين الإدمان ومستوى الدوبامين في المخ، فتوقع الإنسان للشعور بالمتعة نتيجة ممارسة أمر ما يدفعه لتكرار (إدمان) هذا الأمر حتى يصل إلى مستوى أعلى من الدوبامين

عبودية الدوبامين

أبرز مظاهر العبودية للدوبامين: الانغماس في أمر ما وإهمال الأمور الأخرى، التي تعدّ أكثر أهمية في حياة كثيرين ممن يضيّعون الأوقات والواجبات، بحثًا عن أمور يتوقعون منها الحصول على قدر من المتعة.

وهناك ارتباط وثيق بين الإدمان ومستوى الدوبامين في المخ، فتوقع الإنسان للشعور بالمتعة نتيجة ممارسة أمر ما، يدفعه لتكرار (إدمان) هذا الأمر حتى يصل إلى مستوى أعلى من الدوبامين، وهنا يأتي توظيف هذا الأمر واستغلاله في ترويج وتسويق المنتجات والخدمات، وفي القصص والدراما وفي الألعاب، فيراعي فيها جميعًا وجود قدر من التشويق والإثارة، حتى يستقر في ذهن ووعي المتلقي توقع شعور المتعة عند اقتناء المنتج، أو الحصول على الخدمة.

التحرر من عبودية الدوبامين يحتاج إلى القليل من التفكر وإعمال العقل في الاختيار ما بين الراحة القريبة المتمثلة في أفعال معينة كالتدخين وشرب الخمر والإباحية، والمشقة الكبيرة اللاحقة والمتمثلة في المشكلات التي يعاني منها الإنسان على الصعيد الشخصي والأسري والمجتمعي

كيف نتخلص من عبودية الدوبامين؟

عبودية الدوبامين تَحْرِم الإنسان من خير كثير، وتضيّع عليه أثمن ما يملك؛ وهو الوقت الذي يمثّل عمر الإنسان، ونحن بحاجة للتحرر من هذه العبودية والتخلص منها، ويمكن أن نصل لذلك من خلال أمور عدة؛ منها: صوم الدوبامين، الذي يعني الامتناع التام عن السلوك الإدماني لمدة 30 يوم متواصلة على الأقل، وذلك في حالة الإدمان الشديد على نوع واحد من أنواع الإدمان، والامتناع لمدة يوم واحد عن فعل أي نشاط ممتع وغير مفيد، وذلك في حالة تعدد الملهيات والمشتتات الإدمانية.

ومنها: التحكم في مصادر الدوبامين، والبحث عن البدائل الطبيعية لها، وهذا التحكم يبدأ بالندم والإقلاع عن المصادر المحرمة، يقول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، (سورة النساء: 17).

والمطلوب هو القطع مع مواد الإدمان؛ لأن التدرج لا يفيد في التخلص منها بشكل نهائي، يقول الله -تعالى-: {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، (سورة النور: 21).

والتحرر من عبودية الدوبامين يحتاج إلى القليل من التفكر، وإعمال العقل في الاختيار ما بين الراحة القريبة المتمثلة في أفعال معينة؛ كالتدخين وشرب الخمر والإباحية، والمشقة الكبيرة اللاحقة والمتمثلة في المشكلات التي يعاني منها الإنسان على الصعيد الشخصي والأسري والمجتمعي، والاختيار ما بين المشقة القريبة المتمثلة في القراءة والاجتهاد في الدراسة، وبذل الجهد في العمل وممارسة الهوايات النافعة، والراحة الكبيرة اللاحقة التي يحصل عليها الإنسان حيث الاستقرار النفسي، والسعادة الأسرية، والتأثير المجتمعي، وتحقيق كثير من النجاحات التي تخفّف، بل وتمحو الآلام التي مرّ بها الإنسان.

والتخلص من عبودية الدوبامين، يتحقق بالاعتدال والتوسط والتوازن في الحياة بشكل عام، وهي أمور حرصت عليها الشريعة الإسلامية بل وتميزت بها؛ لأنها تحمي الإنسان من الوقوع في الإدمان، وتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.