شعار قسم مدونات

"ورحمتي وسعت كل شيء"

3-عبده ننصح الأهل بمتابعة المهارات والطرق الصحيحة في تكوين العلاقات عندما يكون الأبناء في مرحلة الطفولة- (بيكسلز)
ها أنا اليوم أصاب بتقوس معنوي بسبب رحيل أبي (بيكسلز)

في أحايين كثيرة لا يمكن حصر الرحمة في شيء معين، فالرحمة موجودة حتى في الأمور العسيرة؛ {إن مع العسر يسرى} [سورة الشرح: 6] هكذا يصور لنا الله عز وجل حياتنا، وبعد كل المعارك والحرمان على اختلاف السبل والطرائق والغرق في قيعان اليأس والمصارعة للوصول إلى شط النجاة يأتي كلام الله {وإلى ربك فارغب} [سورة الشرح: 8]، نعم، اذهب إلى الذي وسعت رحمته كل شيء، فهو أرحم بك من نفسك؛ العلاقة مع الله هي التي تمنحك ما لا يوجد عند أحد وتصبّرك، بل وترشدك إلى طريق الصواب.

"مهما عصفت بك الحياة، اعلم يا ولدي أن كل شيء في الحياة رحمة لك ولغيرك: وجودك، والموت، والحياة، والحرمان، والفقر، والغنى وكل شيء"، هكذا خاطبني والدي ذات ليلة وزاد أن هذا الكلام قاعدة في الحياة.

كان دائما يدعوني لأجرب الأشياء الجديدة؛ ذات مرة دعاني والدي لكي أحضر جنازة جارنا المتوفى، وكانت أول مرة أحضر فيها مراسم الدفن بعد الصلاة على الميت. ذهبنا إلى المقبرة وأنا متوتر أرقب كل شيء من بعيد، وبعد دقائق سمعت التلقين، سكت الجميع وأصغوا حينما بدأ الشيخ قائلا: "يا عبد الله، اذكر العهد الذي خرجت عليه وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، واعلم يا عبد الله أن الموت حق، وأن نزول القبر حق، وأن سؤال منكر ونكير فيه حق، وأن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الميزان حق، وأن الصراط حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ويسألاك الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟".

شعرت بالخوف قليلا، لم أكن ناضجا بما يكفي وحاولت أن أحفظ كل شيء قاله الشيخ، الأسئلة مع الأجوبة وأخبرت أبي أنني حفظت الإجابات ولن أنساها، تبسم والدي ووضع يده على رأسي قائلا لي: "يا بني، الأمر أعقد من أن نحفظ الإجابات".

قلت وكيف؟ قال لي هذه الأسئلة لا تشبه أسئلة امتحاناتي في المدرسة التي يكفي أن أحفظها وأجيب عنها وأنجح في الامتحان، وقال لي إن "القرآن هو منهج الحياة ولستَ مطالبا بحفظه بالدرجة الأولى، بل مطالبا بتدبره والعمل به، وبعدها يثبت الله لسانك على إجابات أسئلة الملكين"، حينها لم أدرك كل شيء قاله والدي، وحتى هو لاحظ علامات عدم الفهم الكافي على وجهي، قائلا: "ستدرك مع الأيام، لكن عليك ألا تتخلى عن التساؤل".

أحن إلى جلسة الشاي التي كان يعدها والدي، يا له من شاي لذيذ بامتياز، شاي ممزوج بالحب والعطاء لونه رائق ودافئ كان يصنعه تحت أعواد الخشب بنيران يشعلها بالإيمان والحيوية، يضيف له نكهة الأبوة الخاصة التي أفتقدها الآن

إلى أبي الذي وسعته رحمة الله -بإذن الله-

رحمة الله تسع كل شيء، ها هي الأمور التي علمتني إياها في الماضي استذكرها اليوم بشكل مؤلم مع الصبر.

بعد أكثر من 65 عاما من العطاء، ها هي تنتهي مسيرة صاحب الفضل الكبير والدي يوم الأحد التاسع من أبريل/نيسان 2023 الموافق 18 رمضان 1444، إذ لبى نداء ربه في شهر القرآن والبركات.

ونأمل أن يتغمده الله برحمته التي وسعت كل شيء، أما بالنسبة إليّ، فأنا بعيد عنه قسرا منذ 5 سنوات ويزيد، لم تتح لنا الفرصة للقاء، كانت جل لقاءاتنا في العالم الحي مقتصرة على مكالمات الفيديو الرديئة.

ها أنا أكتب في الماضي ولا أكاد أبالغ في استخدام أفعال الماضي مثل "كان" و"كنت".

أحن إلى جلسة الشاي الذي كان يعده والدي، يا له من شاي لذيذ بامتياز، شاي ممزوج بالحب والعطاء لونه رائق ودافئ يصنعه تحت أعواد الخشب بنيران يشعلها بالإيمان والحيوية، يضيف له نكهة الأبوة الخاصة التي أفتقدها الآن، كان يعده لأجلي وكان دائما يملأ لي كأسين، لكي أشرب الأول بهدوء، ويكون الكأس الآخر أقل حرارة فاحتسيه بسلاسة أكثر، كان يجعلني مميزا في أصعب الظروف، كان لا يكف عن الاهتمام بي، كم يؤلمني الآن استخدام كلمة كان.. كان فعل ماض ناقص، نعم ناقص من الأحبة، ناقص من كل ما خططنا له في المستقبل، ناقص من لقائنا الآن يا أبي، ناقص من الشاي والحب والرضا والكلمات الجميلة، ناقص من كل شيء إلا من رحمة الله يا أبي.

من أصعب آلام الرحيل رحيل الأب، عماد المنزل بشكل خاص، وعماد كل شيء بوجه عام، فالإنسان من دون عماد يبقى متقوسا

فاجعة الموت

من منا لن يتجرع من هذا الكأس، والجميع من دون استثناء سيموت، يقول عز وجل {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} [سورة القصص: 88]، الرجوع إلى الله وهناك سنجتمع مع من نحب قطعا بإذن الله.

من أصعب آلام الرحيل رحيل الأب، عماد المنزل بشكل خاص، وعماد كل شيء بوجه عام، فالإنسان من دون عماد يبقى متقوسا؛ ها أنا اليوم أصاب بتقوس معنوي إلا أن الشريعة الإسلامية تأمرنا بأن نبقى قويمين بشكل أو بآخر، ليس فقط تقويم ظهورنا بل تقويم حياتنا وفطرتنا {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [سورة يوسف: 87] لا مكان لليأس في نفوسنا هكذا يخاطبنا مالك الملك، نعم نحزن وفي النهاية نحن كتلة من المشاعر، وتأتي البشرى أن من أسمى مراتب الصبر هي الصبر مع الرضا، فأولئك الذين يرضون ويصبرون قال لهم تبارك وتعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [سورة الزمر: 10]، مكافأة على صبرهم في الحياة الدنيا، فأشهد الله أني صابر وراض بقضاء الله وقدره، فاللهم اكتبنا مع الذين صبروا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.