شعار قسم مدونات

تقرير اليونسكو والبحث عن حلول جديدة لأزمة الصحافة المطبوعة!

تطبيق ياباني للأطفال يصنع مستقبل الصحافة الورقية
الأزمة التي تواجه الصحافة المطبوعة تشكل خطرا على الديمقراطية (البوابة العربية للأخبار التقنية)

تمنيت أن يكون تقرير اليونسكو هذا العام الذي جاء بعنوان "اتجاهات عالمية في حرية التعبير وتطوير الإعلام" بداية مرحلة جديدة تستعيد فيها اليونسكو دورها التاريخي في إدارة مناقشة جديدة حول الإعلام العالمي، وتذكرت القرار التاريخي الذي أصدره أحمد مختار أمبو مدير اليونسكو عام 1976 بتشكيل لجنة برئاسة شون ماكبرايد لدراسة أوضاع الإعلام العالمي، وأصدرت اللجنة تقريرها بعنوان "أصوات متعددة وعالم واحد" عام 1980.

دعت اللجنة في تقريرها إلى إقامة نظام إعلامي عالمي جديد يحقق التوازن والعدالة في تدفق المعلومات والأنباء، وحماية حق الإنسان في الاتصال.. لكن ذلك أثار غضب الولايات المتحدة الأميركية؛ فانسحبت من اليونسكو؛ مما أدى إلى إضعاف المنظمة الدولية، وعدم قدرتها على قيادة كفاح دول العالم لحماية حرية الإعلام وحق الاتصال وإقامة النظام الإعلامي العالمي الجديد.

ولقد أثر تقرير ماكبرايد على جيلي من الباحثين في مجال الإعلام الدولي، وفتح لي -أنا شخصيا- مجالات جديدة للبحث، وتطوير الحقوق الإعلامية والاتصالية للشعوب، وكنت أشعر بالأسى لضعف دور هذه المنظمة في قيادة حركة الشعوب لتطوير نظمها الاتصالية بعد عام 1984.

سيطر وصف أزمة الإعلام على التقرير؛ فلم يقدم رؤية نقدية لأوضاع الإعلام العالمي، ولم يمتلك الشجاعة لتحديد الأسباب الحقيقية للأزمة، ودور الرأسمالية في تشكيلها

تقرير جديد.. ولكن!!

أثرت تلك الخلفية التاريخية على قراءتي النقدية لتقرير اليونسكو الجديد، فشعرت بخيبة أمل؛ فالتقرير عجز عن تقديم أفكار جديدة، ومبادرات شجاعة لمواجهة التحديات التي تهدد حريات الإعلام والتعبير، وحقوق الإنسان المعرفية والثقافية والاتصالية.

سيطر وصف أزمة الإعلام على التقرير؛ فلم يقدم رؤية نقدية لأوضاع الإعلام العالمي، ولم يمتلك الشجاعة لتحديد الأسباب الحقيقية للأزمة، ودور الرأسمالية في تشكيلها.

بالرغم من ذلك يمكن أن يكون التقرير بداية مرحلة جديدة في الكفاح للمحافظة على الصحافة المطبوعة، والبحث عن حلول مبتكرة لأزمتها، وبذلك يمكن أن يكمل دور تقرير لجنة ماكبرايد عام 1980، فلم تكن تلك الأزمة قد ظهرت في ذلك العهد، وكانت الصحافة المطبوعة هي أهم الوسائل الإعلامية التي توفر المعرفة للجماهير، لذلك كان تركيز لجنة ماكبرايد على تحرير الصحافة من القيود القانونية والسلطوية.

الصحافة المطبوعة ترتبط بالديمقراطية؛ حيث تقوم بدور مهم في تطوير المجال العام المدني، وتمد المواطنين بالمعلومات الأكثر مصداقية، والتي يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ المواطنين لقراراتهم في المشاركة السياسية

الصحافة في خطر.. والديمقراطية أيضا

أما تقرير اليونسكو الجديد فإنه يأتي في مرحلة تهدد فيها الكثير من المخاطر الصحافة المطبوعة كصناعة ومهنة ووظيفة ورسالة، فكيف وصف التقرير الأزمة، وما الحلول التي قدمها؟!

سأقتصر في هذا المقال على أزمة الصحافة المطبوعة.. لماذا؟! من أهم ما جاء في التقرير الإشارة إلى أن أزمة الصحافة المطبوعة سوف تتسع، وأن هناك مخاطر تهدد مستقبل وسائل الإعلام كلها، وحدد التقرير 3 مصادر للخطر هي المصالح والنظم والتكنولوجيا التي لا تهتم بحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية المستدامة!. لكن ذلك يحتاج إلى مزيد من الشرح والتحليل.

فالصحافة المطبوعة ترتبط بالديمقراطية؛ حيث تقوم بدور مهم في تطوير المجال العام المدني، وتمد المواطنين بالمعلومات الأكثر مصداقية، والتي يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ المواطنين لقراراتهم في المشاركة السياسية.. لكن تحتاج الصحف لحماية استقلالها لكي تحافظ على ثقة المواطنين.

مع ذلك، فإن التقرير لم يوضح أن الأزمة التي تواجه الصحافة المطبوعة تشكل خطرا على الديمقراطية، فالصحافة هي التي تشكل المواطن العارف الذي يشارك في الانتخابات، وفي إدارة شؤون المجتمعات، كما أنها من أهم أركان القوة المعرفية والثقافية والإعلامية للدول.

دخل الصحف من الإعلانات تناقص بشكل كبير؛ خاصة بعد أن دفع وباء كورونا الشركات لتقلل إنفاقها على الإعلانات؛ مما أدى إلى زيادة المخاطر على وسائل الإعلام بشكل عام

تناقص دخل الإعلانات!

ركز التقرير على العوامل الاقتصادية التي أسهمت في تشكيل أزمة الصحافة المطبوعة، نتيجة "فشل السوق" الذي أدى إلى تناقص دخل الصحف من الإعلانات؛ مما أدى إلى توقف الكثير من الصحف عن الصدور.

أضاف التقرير عاملا آخر هو: أن الشركات الرقمية قللت أهمية النموذج الاقتصادي الذي قامت عليه الصحافة، وهو تمويل الصحف باستخدام دخل الإعلانات.. حيث تحول المعلنون خلال السنوات الماضية إلى الإنترنت؛ فتزايد الإنفاق على الإعلانات عبر الإنترنت من 35% من الإنفاق العالمي على الإعلانات عام 2016 إلى 54% عام 2021، ثم إلى 60% عام 2023.

هذا يعني أن دخل الصحف من الإعلانات تناقص بشكل كبير؛ خاصة بعد أن دفع وباء كورونا الشركات لتقلل إنفاقها على الإعلانات؛ مما أدى إلى زيادة المخاطر على وسائل الإعلام بشكل عام، وعلى الصحافة بشكل خاص.. فما الحل؟!

أصبح الصحفيون يحتاجون إلى الإعانات التي تقدمها السلطات لضمان صدور صحفهم بدلا من إغلاقها!!

نموذج اقتصادي جديد!

الحل الذي يقدمه تقرير اليونسكو هو أن الصحافة يجب أن تبحث عن نموذج اقتصادي جديد! فما ملامح هذا النموذج؟!

يرى التقرير أن هذا النموذج يقوم على ركنين أساسيين هو أن تعمل الصحف على تقليل الإنفاق، وأن تقدم لها الدولة إعانات.. وهذا الحل الذي تقدمه اليونسكو يشكل تحديا للنظرية الرأسمالية الليبرالية للإعلام التي ترفض تدخل الدولة في شؤون الإعلام، كما تشكل مرحلة جديدة في الكفاح من أجل حرية الصحافة؛ فخلال القرنين السابقين كان الإعلاميون يناضلون لحماية استقلال الصحافة عن السلطة.. لكن الآن تغيرت الظروف، وأصبح الصحفيون يحتاجون إلى الإعانات التي تقدمها السلطات لضمان صدور صحفهم بدلا من إغلاقها!!

صحافة الخدمة العامة

لكن كيف يمكن إقناع الدول بتقديم إعانات لصحفها للمحافظة على حياتها، خاصة إن كانت تلك الصحف معارضة لها؟!! وكيف يمكن أن تقدم السلطات إعانات لصحف جديدة يمكن أن تصدر؟!

يقدم التقرير مفهوما جديدا يمكن تطويره؛ حيث يعتبر أن الصحافة خدمة عامة يجب توفيرها لكل شخص دون استثناء مثل الرعاية الصحية والتعليم، والمواطن يحتاج إلى المعلومات؛ لذلك يجب أن يتمتع المواطن بحقه في الوصول إليها مثل المكتبات العامة.

يضيف التقرير أن الصحافة وظيفة عامة توفر المعلومات للمواطنين، وتشكل حماية لحقوق الإنسان، وتطويرا لهذه الحقوق؛ كما أنها تسهم في تحقيق التنمية المستدامة.

خلال جائحة كورونا تطلعت الجماهير إلى دور الصحفيين المهنيين الذين يوفرون خدمة ضرورية للجمهور، ويتحرون عن صحة هذه المعلومات ويفسرونها

نموذج إذاعة الخدمة العامة!

يطرح التقرير سؤالا مهما: هل يمكن تطوير نموذج صحافة الخدمة العامة على غرار نموذج إذاعة الخدمة العامة؛ حيث يتم تمويلها من أموال دافعي الضرائب، وعن طريق الإعلانات الحكومية؟

من الواضح أن التقرير يؤيد هذا الحل، ويبرر ذلك بأن الصحافة خدمة ضرورية للمجتمع، وتتزايد أهميتها في فترات الأزمات مثل الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية والطوارئ الصحية، وأن أزمة كورونا أوضحت مدى الحاجة للصحافة؛ حيث تم نشر الكثير من المعلومات الزائفة والمضللة؛ لذلك تزايدت حاجة الجماهير لمصدر موثوق به مثل الصحافة، التي يقوم بإنتاج مضمونها صحفيون يعملون طبقا لأخلاقيات وقيم مهنية من أهمها تحري صحة المعلومات ودقتها ومصداقيتها.

لذلك يتساءل التقرير: ماذا لو تم حرمان المجتمع من الصحافة؛ فأصبح المواطن يحصل على المعلومات من الإعلانات والتسويق والبيانات الحكومية والإذاعات الدولية؟!

يجيب التقرير عن هذا السؤال بأن اليونسكو لاحظت أن الجماهير كانت تحتاج خلال جائحة كورونا لمعلومات صحيحة ودقيقة.. فهذه المعلومات كانت مسألة حياة أو موت؛ لذلك تطلعت الجماهير إلى دور الصحفيين المهنيين الذين يوفرون خدمة ضرورية للجمهور، ويتحرون عن صحة هذه المعلومات ويفسرونها.. كما كان الجمهور يحتاج إلى المناقشة التي تديرها الصحافة حول مسؤولية الحكومات والجمهور.

ترى اليونسكو أنه لكي تقوم الصحافة بدورها كخدمة عامة يجب أن يتم حماية استقلالها، وضمان حياتها اقتصاديا؛ فإذا كانت الحياة الاقتصادية تحت تهديد مستمر؛ فحياتها كوسيلة إعلامية متميزة يمكن أن تتوقف

المحافظة على استقلال الصحافة!

لكن مع أهمية الحل الذي تقدمه اليونسكو، وأنه يشكل تفكيرا جديدا خارج إطار الصندوق الرأسمالي الليبرالي؛ فإن مصداقية الصحافة، وثقة الجماهير في المضمون الذي تقدمه يرتبط باستقلالها.

لذلك ترى اليونسكو أنه لكي تقوم الصحافة بدورها كخدمة عامة يجب أن يتم حماية استقلالها، وضمان حياتها اقتصاديا؛ فإذا كانت الحياة الاقتصادية تحت تهديد مستمر؛ فحياتها كوسيلة إعلامية متميزة يمكن أن تتوقف؛ لذلك فإن توفير إمكانيات الحياة اقتصاديا للصحف يسهم في زيادة قدرتها على القيام بوظيفتها كخدمة عامة، وإنتاج نوعية عالية من المضمون الذي يحتاجه الناس، ومقاومة الضغوط.. كما أن توفير إمكانيات الحياة للصحف يزيد قدرتها على المحافظة على استقلالها، وتقديم مضمون يتميز بالجودة والمصداقية، ويصبح مصدر قوة للمجتمع.

مع ذلك فإن أزمة الصحافة المطبوعة ما زالت تحتاج إلى فكر جديد، ودراسات ينتجها علماء يحررون أنفسهم من التبعية للغرب، ليقدموا مناظير حضارية جديدة، واليونسكو تحتاج إلى هؤلاء العلماء لتطوير تقاريرها المقبلة، لتصبح أكثر شمولا وشجاعة وقدرة على تقديم حلول جديدة لأزمة يمكن أن تؤدي إلى انهيار الديمقراطية!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.