شعار قسم مدونات

جدلية العلاقات التركية الأميركية.. هل تؤثر على مقعد تركيا بالناتو؟

هل صعق فوز أردوغان واشنطن كومبو بين أردوغان وبايدن
الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان (يمين) والأميركي جو بايدن (وكالات)

أثارت تصريحات قائد القوات البحرية التركية الأدميرال أرجمنت تاتلي أوغلو جدلاً كبيراً في تركيا وخارجها وذلك خلال كلمته التي ألقاها في الاحتفالات التي جرت في مدينة يلوا بمناسبة مرور 133 عاماً على تأسيس مدرسة الضباط البحرية وفقا لما أشار اليه موقع ترك برس.

وكان تاتلي أوغلو قد قال إن تركيا ترفض دخول أي سفن حربية تابعة للناتو أو أي دولة إلى البحر الأسود، وذلك "حتى لا يتحول الأخير إلى شرق أوسط جديد" (ربما قصد بذلك ألا يخضع البحر الأسود للهيمنة والنفوذ الأميركي كما هو الحال بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط).

وفي معرض تعليق الكاتب إسماعيل ياشا على هذه التصريحات في مقاله المنشور بالعربي الجديد أكد أن الدولة المقصودة من هذه التصريحات هي الولايات المتحدة الأميركية.

وأمام هذا التطور، فإن السؤال الذي يفرض نفسه الآن، " هل تمثل هذه التصريحات تغيراً في شكل العلاقة بين أنقرة وواشنطن؟

وللإجابة على هذا التساؤل، يلزمنا بدايةً تعريف المحددات التي رسمت تاريخ العلاقات التركية الأميركية وبالأخص منها جانبها العسكري والأمني، حيث إن هذه العلاقة كانت تزداد قوة كلما شعرت حكومتا الدولتين بوجود تهديد عالمي أو إقليمي لأمنهما المشترك.

وكانت أولى تجليات ذلك في ما بعد الحرب العالمية الثانية، حينما انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي، إذ اعتبرتها الولايات المتحدة حاملة طائرات متقدمة لمواجهة التهديد السوفياتي لأوروبا وذلك فى مقابل توفير غطاء غربي أميركي لحماية تركيا من غزو روسي محتمل آنذاك.

بلغت ذروة الخلاف بين الدولتين في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا عام 2016، والتي اتهمت فيها الأخيرة أميركا بضلوعها في هذه المحاولة، لاستضافتها وحمايتها فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالتخطيط لها عن طريق ما تصفه "بالتنظيم الموازي"

تاريخ من الشد والجذب

إلا أنه بقدر من التدقيق يتبين أن العلاقات الأميركية التركية مرت بكثير من الشد والجذب منذ حقبة الستينيات، هذه الفترة التي شهدت قيام الرئيس الأميركي كينيدي بسحب قواعد الصواريخ من تركيا إبان الأزمة الكوبية، الخطوة التي اعتبرتها الحكومة التركية ومؤسستها العسكرية آنذاك تخلياً من حليفها الأميركي عنها. كما شهدت أيضا توجيه الرئيس الأميركي جونسون خطابا يحذر فيه الرئيس التركي عصمت إنونو من التدخل في قبرص عام 1964.

لكن البعض يرى أن المعول الأول "الحقيقي" الذي دك بناء هذا التفاهم الإستراتيجي بين الدولتين تمثل في رفض البرلمان التركي استخدام الولايات المتحدة للأجواء التركية أثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

وبلغت ذروة الخلاف بين الدولتين في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا عام 2016، والتي اتهمت فيها الأخيرة أميركا بضلوعها في هذه المحاولة، لاستضافتها وحمايتها فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالتخطيط لها عن طريق ما تصفه "بالتنظيم الموازي".

أما عن إعادة تعريف العلاقة الإستراتيجية بين البلدين في الوقت الراهن فلقد تراكمت الملفات التي اختلفت فيها رؤى الدولتين انطلاقاً من تصور كل منهما لأمنهما القومي ومصالحهما التي أصبحت متباينة بل ومتعارضة أحياناً.

يأتي على رأس هذه الملفات الخلافية الدعم الأميركي لمليشيات "قسد" الكردية في الشمال السوري والتي تعتبرها تركيا تهديداً مباشراً لحدودها الجنوبية وأمنها القومي.

ومن جهة الغرب، فإن تركيا تنظر إلى قيام الولايات المتحدة على مدى سنوات وتحت مظلة الناتو، بحشد قوات متزايدة في اليونان وبحر إيجة، على أنه تهديد محتمل لها حتى ولو بررته أميركا بأنه موجه لدرء الخطر الروسي.

أما من ناحية الشرق، فإن تركيا وبدعمها أذربيجان لاسترداد إقليم ناغورني قره باغ من أرمينيا، أثارت استياء الولايات المتحدة التي اعتبرت هذا التحرك التركي تدخلا لم تخفه التصريحات العلنية الأميركية.

تأتي تصريحات الأدميرال تاتلي أوغلو منطقية ببعدها الإستراتيجي حيث تخشى المؤسسة العسكرية من إحكام حصار بحري على الدولة التركية إذا سمحت للأساطيل الأميركية، والناتو من ورائها، بالدخول إلى البحر الأسود وتهديد السواحل التركية من الشمال والشمال الشرقي

طوفان الأقصى وشكوك تركيا في الحشد البحري

وأخيراً، وبعد انطلاق "طوفان الأقصى" وقيام الولايات المتحدة بتحريك أسطولها السادس نحو المنطقة وجلب حاملات طائراتها إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر بما في ذلك غواصاتها النووية، فإن تركيا لا تثق في نوايا هذا الحشد البحري وتعتبره تهديداً لها ولما أطلقت عليه "وطنها الأزرق" في شرق المتوسط.

من كل هذا يتضح أن الحكومة التركية، ومن ورائها المؤسسة العسكرية التي مثلت دائماً حائط الصد الأول والكيان المنوط به وضع الخطوط الحمراء لأمن البلاد القومي، تنظر بكثير من الشك والقلق إلى سعي الولايات المتحدة لفرض حصار عسكري وتطويق لحدود تركيا من أقصى الجنوب الشرقي في العراق وسوريا حيث تنشر أميركا قواعدها العسكرية، إلى أقصى الشمال الغربي في اليونان.

المؤسسة العسكرية لن تسمح بتهديد سواحل تركيا من الشمال

لذلك تأتي تصريحات الأدميرال تاتلي أوغلو منطقية ببعدها الإستراتيجي حيث تخشى المؤسسة العسكرية من إحكام حصار بحري على الدولة التركية إذا سمحت للأساطيل الأميركية، والناتو من ورائها، بالدخول إلى البحر الأسود وتهديد السواحل التركية من الشمال والشمال الشرقي خاصةً مع بدء تشغيل حقول الغاز المكتشفة حديثا.

لا يغيب عن عين صانع القرار التركي الملف الاقتصادي، حيث إن تركيا تستفيد من عضويتها في الناتو وعلاقاتها مع الغرب من قيامها بدور رئيسي في مجال الصناعات العسكرية المرتبطة بالحلف أو التصدير للمنتجات التركية إلى الأسواق الأوروبية والتي تعود عليها بكثير من المكاسب الاقتصادية

ملفات التنسيق بين أنقرة وواشنطن

وبالرغم مما سبق فإن الدولتين تجمعهما عدة ملفات من التنسيق الأمني المشترك، فالولايات المتحدة تنظر إلى تركيا باعتبارها خزاناً إستراتيجياً استثمرت فيه ويمكن الاعتماد عليه إقليمياً لردع الخطر الإيراني على سبيل المثال أو التفاهم مع روسيا كما حدث، ولا يزال، أثناء الحرب الأوكرانية التي اندلعت العام الماضي.

أما تركيا فإنها تسعى إلى تقديم نفسها كشريك رئيسي في صنع القرار في الناتو وليست مجرد أداة صُنعت على عين الغرب لتحقيق أهدافه في الإقليم. فالحكومة التركية تحاول أن تدير مؤشر السياسات الإستراتيجية للناتو وتقدم نفسها باعتبارها لاعباً أساسيا في تعريف المخاطر التي تواجه الحلف وترفض إملاءات أوروبا وأميركا عليها.

وفي حقيقة الأمر فإن ذلك كله يأتي في إطار سياسة خارجية أشمل للحكومة التركية بعد الانتخابات الأخيرة ومحاولتها استغلال كافة المنابر الدولية المؤثرة مثل مجموعة العشرين والناتو لإيصال صوتها ورؤيتها للعالم والتي تتميز عن الرؤى التي تتبناها الكثير من الدول الغربية الأعضاء فى هذه التجمعات.

ولا يغيب عن عين صانع القرار التركي الملف الاقتصادي، حيث إن تركيا تستفيد من عضويتها في الناتو وعلاقاتها مع الغرب من قيامها بدور رئيسي في مجال الصناعات العسكرية المرتبطة بالحلف أو التصدير للمنتجات التركية إلى الأسواق الأوروبية والتي تعود عليها بكثير من المكاسب الاقتصادية في ظل ازمة حادة تعاني منها العملة المحلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.