شعار قسم مدونات

إرادة القوة لا العقلانية الحداثية أو القيم الليبرالية!

نزح بهاء الكحلوت من منزله في شمال قطاع غزة إلى رفح في جنوب القطاع طلباً للأمن فحفر فيها قبراً لطفله الذي قضى تحت الأنقاض جراء غارة على منزل مجاور-رائد موسى-رفح-الجزيرةنت
الفلسطينيون لا يملكون إلا أن يكونوا مستباحين ولا حق لهم في الدفاع عن أنفسهم ولا عن دولتهم ووجودهم السياسي (الجزيرة)

منذ نحو عشرين عاما، في مؤتمر صحفي جرى في أعقاب سقوط بغداد عام 2003، سئل أحد المتحدثين الإعلاميين للجيش الأمريكي عن التسويغ القانوني لاحتلال دولة ذات سيادة، دون تفويض أممي من مجلس الأمن، فأجاب الضابط الشاب باقتضاب وبثقة من كان يتوقع هذا السؤال وتدرب على إجابته طويلا: نحن الآن نركز على سير العمليات العسكرية، أما الجوانب القانونية فيمكن مناقشتها لاحقا. كانت إجابته مدهشة وصادمة، نظرا لجسامة الأمر وخطورته، وتهافت الرد ولامبالاته.

لماذا لا يقبل منطق هرتسوغ لتسويغ عملية طوفان الأقصى، وأنه لا مدنيون في إسرائيل، وأن جرائم دولتهم ضد الفلسطينيين يتشارك فيها الإسرائيليون جميعا، لأنهم انتخبوا قادة دولتهم، ويدفعون الضرائب التي تمولهم

عادت هذه الواقعة إلى ذاكرتي مؤخرا وأنا أرى تهافت التصريحات الرسمية الغربية إزاء الجرائم الصهيونية في غزة، تهافتا لا يراعي أبسط القواعد الأخلاقية، أو حتى يحترم عقل المخاطبين، ففي هذه التصريحات يبرز "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كقيمة مطلقة، تقيد أمامها كل القيم الأخرى كالحق في الحياة، وحرية التعبير، والحريات الأكاديمية، وغيرها، بل وتبرر بها كافة الجرائم ضد الإنسانية من استهداف المدنيين بشكل عشوائي، واستهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف، والصحفيين، مرورا بالعقوبات الجماعية كقطع المياه والتجويع، والاعتقالات العشوائية، وتعذيب المحتجزين حتى القتل، وانتهاءا بالتهجير القسري والسعي لمحو شعب من الوجود، كما يبرز هذا الحق وكأنه حق لحصري لإسرائيل، أما الفلسطينيون فلا يملكون إلا أن يكونوا مستباحين، ولا حق لهم في الدفاع عن أنفسهم، ولا عن دولتهم ووجودهم السياسي.

يزداد الأمر فجاجة، بالوقوف على تصريحات قادة دولة الاحتلال ذاتهم، كتصريح الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ لتبرير جرائمهم ضد أهل غزة "إن هناك أمة كاملة تتحمل المسؤولية، ليس صحيحا القول إن المدنيين غير واعيين وغير ضالعين في الأمر، هذا ليس صحيحا على الإطلاق، كان بإمكانهم الانتفاضة، ومحاربة هذا النظام الشرير الذي سيطر على غزة في انقلاب"، أو التصريح الذي كرره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عدة مرات، حتى قبل العدوان الأخير على غزة، أنه "يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم".

والسؤال البديهي هنا، لماذا لا يقبل منطق هرتسوغ لتسويغ عملية طوفان الأقصى، وأنه لا مدنيون في إسرائيل، وأن جرائم دولتهم ضد الفلسطينيين يتشارك فيها الإسرائيليون جميعا، لأنهم انتخبوا قادة دولتهم، ويدفعون الضرائب التي تمولهم، ويخدمون في الجيش الذي يمارس هذه الجرائم؟ ولماذا يكون عدم الاعتراف بدولة إسرائيل وحقها في الوجود معاداة للسامية، بينما يكون عدم الاعتراف بدولة فلسطين وحقها في الوجود موقفا سياسيا، بل وموقفا متفهما عند البعض ضمن مصالح الأمن القومي الإسرائيلي؟ ولماذا لا يثير إصرار قادة إسرائيل على "يهودية الدولة" نفس ردود الفعل السلبية والمستهجنة التي قد يثيره إعلان حركة حماس – أو غيرها – عزمهم على تأسيس دولة إسلامية؟

الذي يحدد سلوك هذه الحكومات الغربية في القضايا الصراعية الدولية هو مبدأ إرادة القوة النتشوي، وليست العقلانية والرشادة الحداثية، أو القيم الأخلاقية الليبرالية، فالأقوياء والمتفوقون من حقهم فرض إرادتهم وتصوراتهم وقيمهم كاملة على الضعفاء

هذا التفاوت، في رأيي، له دلالتان هامتان، أولهما، أن الحكومات الغربية لم تبرأ بعد من العقلية الاستعمارية، القائمة على اللامساواة بين الشعوب، ولم تبرأ كذلك من المركزية الغربية، لذا فإن رؤيتهم لهذا الصراع تختلف بشكل ملحوظ عن رؤية ما يسمى "بدول الجنوب"، كما يتبدى مثلا في نمط التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك في التضامن الذي يبديه ضحايا الاستعمار الغربي من الشعوب الأصليين مع القضية الفلسطينية، والتي بالنسبة لهم تعكس استمرارا للنضال ضد نفس الظاهرة الاستعمارية.

وثانيا، أن الذي يحدد سلوك هذه الحكومات الغربية في القضايا الصراعية الدولية هو مبدأ إرادة القوة النتشوي، وليست العقلانية والرشادة الحداثية، أو القيم الأخلاقية الليبرالية، فالأقوياء والمتفوقون من حقهم فرض إرادتهم وتصوراتهم وقيمهم كاملة على الضعفاء، ولا حاجة لأن يسوغوا ذلك أو يبرروه، بل هو حق طبيعي مكفول، تكفله لهم قوتهم، وهو المعنى الذي عبر عنه أحمد شوقي بقوله:

ودعوى القوي كدعوى السباع .. من الظفر والناب برهانها

وكرر معناه الشاعر والأديب الفلسطيني مريد البرغوثي في روايته "رأيت رام الله": لم أكن ذات يوم مغرما بالجدال النظري حول من له الحق في فلسطين، فنحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق، لقد خسرناها بالإكراه وبالقوة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.