شعار قسم مدونات

المذبحة الكبرى.. العار والكارثة التي دمغت أوروبا في عصر النهضة

هذا الصباح-رسوم عصر النهضة تزين متحف بوشكين بموسكو
رسوم عصر النهضة تزين متحف بوشكين بموسكو (الجزيرة)

450 سنة مضت ولا تزال صرخات القتلى تؤرق الوعي الجمعي الفرنسي والأوروبي في واحدة من أبشع المذابح الدينية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.

وقعت مذبحة سان بارتيليمي في فرنسا عام 1572، وذبح خلالها أعداد تقدر ما بين 5 آلاف إلى 30 ألف بروتستانتي فرنسي على يد السلطات الكاثوليكية والمتعصبين من الكاثوليك.

كان الهدف منها القضاء على البروتستانت تماماً، وذلك بأوامر من الملك شارل التاسع ووالدته كاترين دي ميديشي، وترحيب من بابا الكنيسة الكاثوليكية البابا غريغوري الـ13، خوفاً من سطوة وانتشار البروتستانتية.

تلقى غريغوري الـ13 نبأ قتل البروتستانت بفرح غامر بصفته علامة على عناية الله ورحمته، وهنأ ملك فرنسا على هذا العمل الجليل الذي استأصل طاعون الزندقة من المملكة الفرنسية الطاهرة.

الصراع الكاثوليكي البروتستانتي

بدأت بشائر عصر النهضة تلوح في أوروبا مع ولادة الإصلاح الديني والانشقاق الذي اقتطع به لوثر وكالفن من الكنيسة الرومانية الإمبراطورية نصف أوروبا.

نشأت الحركة البروتستانتية في ألمانيا على يد الألماني مارتن لوثر الذي يمكن رد جميع البروتستانت أو الإنجيليين في العالم إلى أفكاره.

وقد انشقت الكنيسة البروتستانتية عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن الـ16، والبروتستانتية مذهب عدد من الدول بما في ذلك الدانمارك وبريطانيا والنرويج والسويد.

كما أن للبروتستانتية أثراً قوياً في التاريخ الثقافي والسياسي لتلك الأقطار، وفي القرون الأخيرة وضع البروتستانت ثقافتهم الخاصة، التي قدمت مساهمات كبيرة في مجال التعليم، والعلوم الإنسانية والعلوم، والنظام السياسي والاجتماعي، والاقتصاد والفنون، وغيرها من المجالات.

البروتستانتية هي أحد مذاهب وأشكال الإيمان في الدين المسيحي، تعود أصول المذهب إلى الحركة الإصلاحية التي قامت في القرن الـ16، وهدفها إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية.

انبثقت معظم الطوائف البروتستانتية من حركة الإصلاح الديني المعروفة التي قامت في أوروبا.

وتمثل حركة الإصلاح قمة الدعوة إلى التجديد داخل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التي كان من معالمها ترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية إلى اللغات المحلية، مما جعل التعاليم المسيحية في متناول كثير من الناس، ورغَّب في العودة إلى القيم والبساطة التي اتسمت بها المسيحية في عهودها الأولى.

ثم ظهرت سلسلة من الحركات الدينية التي التقت جميعها في رفضها لسلطة البابا المركزية، ولكنها اختلفت فيما بينها نتيجة لعوامل ثقافية وجغرافية وسياسية ودينية.

انقسام أوروبا

دخلت الدول الأوروبية في تنافس، تحول إلى صراع، ولبست الدول المتنافسة الدين درعاً، أو اتخذته ذريعة للمكاسب الاقتصادية. وتعد فرنسا من الدول التي سبقت غيرها في هذا الميدان، فكمية الذهب والفضة المتداولان في أوروبا ازدادت 800% في القرن الـ17، بفضل الجموع الكبيرة من الهنود الذين كانوا يموتون في العمل القسري في مناجم المعادن الثمينة، أدى هذا الذهب المتدفق من أميركا إلى انهيار عملتها، وتضخم الأسعار فيها، ولم ينجُ من الأزمة غير الكنيسة التي ظلت محتفظة بثرائها.

وحينما تولى فرانسيس الثاني عرش فرنسا عين أخاه الأكبر فرانسيس دغيز وزيراً للحرب، فشن حرباً على الإصلاح الديني الذي يتزعمه البروتستانت بحجة الحفاظ على المذهب الكاثوليكي.

انقسمت فرنسا بين كاثوليك وبروتستانت، فروعت هذه الصورة فرانسيس، فصدر قرار يقضي بإعادة البروتستانت المتعلقين بعقيدتهم، وطبقاً لهذا القرار راحت الدولة تحرق وتغرق حتى امتلأ نهر اللوار بالجثث.

مات فرانسيس الثاني وتسلم الملك أخوه (شارل التاسع) وجُعلت كاترين دي مديتشي وصية عليه، فأمرت بإطلاق السجناء السياسيين وأنهت الاضطهاد.

هذه السياسة اللينة أغرت البروتستانت فجهروا بنشاطهم، وحظروا الخدمات الكاثوليكية في مناطقهم، وفجروا الشغب في مدن كثيرة، فأصدرت كاترين مرسوماً لمنع العنف، لكن الإصلاحيين رفضوه، وأغاروا على كنائس الكاثوليك، وحطموا التماثيل، ونهبوا الأديار، وداسوا القربان.

لجأت الملكة إلى استرضاء الطرفين فأصدرت سنة 1562 مرسوماً جديداً ألزم البروتستانت تسليم المباني للكنيسة التي سيطروا عليها، وسمحت لهم بعقد اجتماعاتهم خارج المدن.

كان هذا المرسوم اعترافاً بالبروتستانتية ولو كان خارج الكنائس، فغضب كبار القادة في بلاط كاترين، ونجم عن المرسوم توتر شعبي وصدامات بين الفريقين، فشكل وزير الحرب الفرنسي مع بعض قادة البلاط جيشاً من الكاثوليك وطلبوا العون من إسبانيا.

واحتشد البروتستانت في أورليان وطلبوا المدد من إنجلترا وألمانيا، وسيطر البروتستانت على معظم المدن في جنوب فرنسا، والتقى الجيشان عند "درو" ووقعت معركة كبرى قتل فيها 6 آلاف من الفريقين.

سعت كاترين مرة أخرى إلى التوفيق بين الأعداء، وبتوقيع مرسوم أمبواز سنة 1563 سمح للبروتستانت بالعبادة خارج باريس.

بلغ شارل التاسع رشده وتسلم التاج من كاترين، ولم تستطع سياسة التوفيق التي تبنتها الملكة غسل الإحن، إذ كانت الدماء تراق من الفريقين حينما يقع أدنى خلاف.

المذبحة.. العار والكارثة

في هذه الأثناء قيل لكاترين إن زعماء البروتستانت يخططون لفتنة ماحقة، تقضي على أسرتها، فوافقت على قتل هؤلاء الزعماء.

وحصلت الملكة على موافقة الملك، وقال "اقتلوهم جميعاً".

واتخذ الأمراء كلامه حجة للقضاء على البروتستانت كلهم رؤساء ومرؤوسين.

عصفت رياح الموت تغتال وتسحق وتدمر، واغتنم الأزواج المعذبون أو الطامعون والزوجات الفرصة ليتخلصوا من غير المرغوب فيهم، وذبح التجار منافسيهم.

وحينما بلغت أنباء المذبحة المدن الكاثوليكية والأقاليم الفرنسية نهض الكاثوليك بواجب الدفاع عن العقيدة، وذبحوا من وجدوا فقتل في ليون 800، وفي أورليان ألف ضحية.

واختلف المؤرخون في إحصاء الضحايا، فالمقل يقول 5 آلاف والمكثر يبلغ بها 30 ألفاً.

وشمت كاثوليك أوروبا، وكتب الممثل البابوي في باريس إلى رئيسه في الفاتيكان قائلاً "أهنئ قداسة البابا من أعماق قلبي".

وحين وصل النبأ إلى روما نفح كردينال اللورين حامله بألف كراون وهو يهتز طربا، وأضيئت روما كلها وأطلقت المدفعية، وقرعت الأجراس.

أما أوروبا البروتستانتية فاتهمت المذبحة بأنها همجية ونذالة، وطالب الإنجليز ملكتهم إليزابيث بإعدام الكاثوليك السجناء لديها فرفضت.

وقد خُيِّل إلى كاترين أنها سحقت خصومها، لكن ثورة البروتستانت عادت من جديد لتثبت إخفاق المجزرة في اجتثاث جذور العقيدة من القلوب.

وهكذا، وقبل 100 عام كانت نذر الثورة تبرق وترعد في سماء فرنسا.

خلاصة

شهد القرن الـ16 انتهاء العصور الوسطى، وولادة النهضة في فرنسا تلك الفترة التي نازعت فيها حركة الإصلاح الديني حركة إحياء العلوم رغم أنها ارتبطت بها بادئ الأمر.

واجتمع في هذا العصر خليط متناقض من عبقريات يعجز عن حصرها العالِم، وترهات يخجل من ذكرها الجاهل، وتآخت تحت قبة النهضة فلسفات وخرافات، ومسيحية ووثنية، واعتقاد وإلحاد، وتعمير وتدمير، في عصر شديد الحيوية، لكنه يؤثر فيه الشكل على العقل، والضحالة على الأصالة، والرذائل على الفضائل.

وفي كتابه الإرهاب الغربي يصف روجيه غارودي عصر النهضة بأنه "ولادة وحوش الغابة".

مع ذلك كله يأبى المؤرخون إلا أن يسموا هذا العصر بعصر النهضة.

المصادر

  • قصة الحضارة: ويل ديورانت.
  • الوجيز في قصة الحضارة: د. غازي طليمات.
  • معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا: هاشم صالح.
  • الإرهاب الغربي: روجيه غارودي.
  • مواقع إلكترونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.