شعار قسم مدونات

التربية العلمية والمعرفية للناشئة.. وأثرها على الواقع الاقتصادي

الخوف والهروب حالتان لمن يتعرض للتحرش في طفولته
التربية العلمية والعملية للجيل الشاب تكسبهم المفاتيح الحقيقية للتعامل مع الأزمات اليوم، فالتدريب العلمي والعملي والعقلي والذهني إذا ما تم بشكل مدروس بين أكثر من منبر تأثير ستكون له تداعيات حقيقية على الواقع المجتمعي (بيكسابي)

يعترف الكل حاليا بآثار المشكلات التي كانت متراكمة في الخفاء على مدى العقود الماضية، بعد حقبة الاستعمار العلني، وحقبة الاستعمار المقنع المسمى بالاستقلال في دولنا في المشرق الإسلامي عموما. فالفقر، والجهل، والمخدرات، والمسكرات، والتحلل الاجتماعي، وهجرة العقول، وحروب المياه والموارد الطبيعية، والاستبداد السياسي والإداري في المؤسسات الحكومية، ونحوها من المشكلات الكارثية التي تستطيع الواحدة منها تفتيت مجتمع بكامله اجتمعت كلها -للأسف- بأكثر من صورة لها ومسمى في مجتمعاتنا، فأوجدت مناخات سلبية ومدمرة بصمت كئيب على مدى سنوات وسنوات، حتى بدأت بالانفجار في بعض البيئات بسبب الضغوط الاقتصادية وضغوط كورونا والتفكك في منظومات الحكم في غير موضع.

كثرة المشكلات يغذيها ضعف وسذاجة الإعلام في المواقع الرسمية العربية، بل وارتهانها بالجهل الموجه في أكثر من بيئة، وانشغال الإعلام بالتشويه والحرب الإعلامية مع هذه الدولة أو تلك. وتناسي هذه المشكلات القاتلة جعلها تتفاقم بصمت، ومما أوجد الهزة الفعلية في كيان الشعوب ما شهدته سوريا والعراق واليمن مؤخرا من مشاهد القتل الدموي والهمجي، وهو ما أوجد لدى الناشئة والجيل الشاب -على وجه التحديد- ردة فعل سلبية قوية وعكسية جعلتهم يميلون لحالة من الهروب من الواقع، والتوجه إلى المقاهي والرحلات والسفر بدل اللجوء إلى العنف والجهل والفساد والمحسوبيات في العمل والتوظيف التي باتت تغزو كل مجال من مجالات الحياة وتؤثر على واقع الفرد والأسرة والمجتمع.

لا يعنيني كثيرا التوسع في ذكر المشكلات، لكن ما يهمني اليوم هو تسليط الضوء على الحلول الممكنة لهذه المشكلات حتى يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المجتمعات، لا سيما شريحة الشباب التي باتت تائهة بالفعل وتفقد الأمل بمستقبلها، وهذه الحلول تعتمد -انطلاقا من الدراسات الأكاديمية والاستقراءات الواقعية وشواهد الواقع- على مفصل واحد وهو: مفصل الأسرة والعائلة الصغيرة، لتتوسع بعدها للعائلة الكبيرة، إذ ينبغي وضع ضوابطها والارتقاء بأفرادها وأعضائها، وضمان نزاهة عقولهم وسلامة تفكيرهم وتوجهاتهم في ظل هذه الظروف المعقدة والمركبة التي تحير عقول العلماء والمتخصصين، فضلا عن العامة وشرائح الشباب صغير السن.

إن الاهتمام البالغ والمشدد اليوم بين الوالدين، وبين الوالدين وأبنائهم مهم جدا، في ظل الحالة غير المنطقية من التسيب الإعلامي والانفتاح غير المضبوط في وسائل التواصل الاجتماعي، والصحبة الفاسدة، والتسيب الإداري في كثير من المدارس والمؤسسات التعليمية، والقطيعة القاتلة بين مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات الإعلامية والتعليمية والحكومية. وتتأكد أهميته أيضا لإيجاد محضن آمن للشباب اليوم، وبيئة قابلة للحياة يمكن لها أن تحمي الجيل المعاصر من حالة الموت السريري غير المعلن، وتؤسس لعلاقات ولو بالحد الأدنى داخل المجتمعات الصغيرة يمكن لها أن تنعكس تباعا على المجتمعات الأكبر تلقائيا، وهو ما يتيح لمؤسسات المجتمع المدني الميتة، والاتحادات والنقابات العمالية والتخصصية ذات المسميات البراقة والأعمال الصفرية أن تبدأ بالعمل رويدا رويدا لبث حالة من الأمل في المجتمعات؛ تنقذها من مسلسلات الجهل والمخدرات والعنوسة والعزوف عن الزواج والفقر والاستبداد ومواجهة الواقع المرير بحكمة وعقلانية.

إن المخاطر المحدقة بالجيل اليوم لم تكن أبدا موجودة بهذا المستوى من الانتشار في المجتمعات السابقة، ولعل ذلك كان بفعل وسائل المواصلات والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي باتت موجودة ومتاحة بأيدي الصغار والكبار في كل بيت ومؤسسة، مما يتيح انتشار الأفكار الهدامة، والمنتجات الهدامة، وعدم وجود رقابة حقيقية -على مدار الوقت- من طرف الأهل على أبنائهم؛ ومما يؤسس للانفلات من عقال الأسرة تدريجيا وصولا للواقع الغربي في التفكك الأسري، والانعزال عن المجتمع بالمخدرات والمسكرات والخمر والجريمة المنظمة.

الحديث العقلاني اليوم عن دور الحكومات والوزارات المعنية، وحتى الاتحادات والنقابات الفاعلة، يتطلب وضع الخطط العملية لتنمية الوعي الشبابي بالواقع، وصناعة الوعي التدريجي لدى المرأة باعتباره ركيزة أساسية ومركزية من ركائز المجتمع المؤثرة، وهو ما سينعكس تدريجيا على قدرة المجتمع على تصويب المشكلات الداخلية فيه بشكل عملي ومنهجي، وصناعة المشروعات التي تجمع الشرائح الشبابية والمرأة ورواد الأعمال حول البناء لا الهدم، وحول التنمية لا السراب والتيه والانشغال بصرف الوقت في المقاهي والمطاعم بدون طائل.

التربية العلمية والعملية للجيل الشاب تكسبهم المفاتيح الحقيقية للتعامل مع الأزمات اليوم، فالتدريب العلمي والعملي والعقلي والذهني إذا ما تم بشكل مدروس بين أكثر من منبر تأثير ستكون له تداعيات حقيقية على الواقع المجتمعي، وعيا وسلوكا، وحتى على مستوى الخطاب، وهو ما سيجعل الجيل اليوم ينطلق بتفكير إيجابي في بناء ذاته ومشروعاته، والابتعاد عن حياة اللامسؤولية التي فرضت عليه بفعل عوامل الأزمات بمسمياتها المتعددة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.