شعار قسم مدونات

المفهوم الشامل والعميق للمواطنة في الدولة الإسلامية

وطن المسلم يعني «دار الإسلام» على اتساعها فكل أرض تجري فيها أحكام الإسلام وتقام شعائره ويعلو سلطانه ويُرفع فيها الأذان هي وطن المسلم (رويترز)

كان المعنى الفطري للوطن هو السائد لدى المسلمين في تاريخهم، وهو الأرض التي وُلد فيها الإنسان أو نشأ، وله بها علاقة مادية وعاطفية تمثل نوعًا من الانتماء أكبر وأعمق من الانتماء إلى الوطن؛ إنه انتماء قدري وجبري لا اختيار للإنسان فيه. ولكن الانتماء الآخر هو باختيار الإنسان وحريته، فهو الذي يختار دينه، ويصرُّ عليه، ولا يرضى به بديلًا، ولو كان ملك المشرق والمغرب بديلًا لهذا الانتماء، وهذا الولاء الآخر هو لله ولرسوله وللأمة التي تشاركه هذه العقيدة، فبعد أن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا؛ أصبح الإسلام مصدر اعتزازه، ومحور ولائه، وأساس انتمائه، وعزة أمة الإسلام أهله وهم إخوانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

«المسلم أخو المسلم»، «والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».

وأمست دار الإسلام هي وطن كل مسلم، وإن تباعدت داره، وقد عبَّر فقهاء الإسلام عنها بهذا اللفظ «دار الإسلام»، وإن كانت هي في الحقيقة ديارًا وأوطانًا؛ يشعر المسلم بوحدة الدار، وأصبح ولاء المسلم لهذه الأمة الكبرى أمرًا مُسلمًا به، ويعدّ من مقتضيات الإيمان، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55-56].

وولاء المسلم لأمته الكبرى يفرض عليه أن يذود عن حماها، ولا يسمح لأحد أن يعتدي عليها، أو يستولي على شيء من أرضها، أو ينتهك حرمة من حرماتها، أو يهين كرامة بعض أبنائها أو بناتها، وهو ما جعل الخليفة المعتصم يجيِّش الجيوش لغزو الروم، نصرًا لامرأة مسلمة لطمت على وجهها، فاستغاثت به عن بُعد قائلة "وامعتصماه"، فقال "لبيك أختاه".

 

الانتماء بين الحاضر والماضي

كان وطن المسلم يعني «دار الإسلام» على اتساعها، فكلُّ أرض تجري فيها أحكام الإسلام، وتقام شعائره، ويعلو سلطانه، ويُرفع فيها الأذان هي وطن المسلم؛ يغار عليه، ويدافع عنه كما يدافع عن مسقط رأسه، وكان العالم، وكان قوم المسلم هم المسلمون أو الأمة الإسلامية؛ الذين جمعته بهم أخوة الإيمان وعقيدة الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وكان أعداء المسلم هم أعداء الإسلام، ولو كانوا ألصق الناس به، وأقربهم إليه (القرضاوي، الوطن والمواطنة، ص 35).

قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].

فالمسلم حين يقف في صلاته مناجيًا ربه بهذا الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بصيغة الجمع هذه يستحضر في حسِّه وذهنه أمة الإسلام جمعاء، وحين يقرأ قول الله تبارك وتعالى في كتابه {يا أيها الذين آمَنُوا} [البقرة: 104] يفهم أن هذا الخطاب موجَّه للمسلمين جميعًا، أينما كانوا، وحين يقف الخطيب على منبر يوم الجمعة يدعو المسلمين كافة من دون تفرقة بين إقليم وإقليم، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين لسان ولسان، بل يقول دائمًا "اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أعزَّ المسلمين في كل مكان".

فإن خصَّ بلده يومًا بالدعاء له بالنصر، والرخاء، والسعادة، والعزة؛ نجده يقول "لبلدنا هذا خاصة، ولسائر بلاد المسلمين".

فالتفكير الإسلامي والحس الإسلامي لا يعرفان العصبية الإقليمية، ولا العنصرية بحال من الأحوال.

 

صور رائعة

وفي الفقه الإسلامي نجد هذه الصورة المعبِّرة عن وحدة الأمة المسلمة، ووحدة الوطن الإسلامي، وذلك في ما ينقله العلاَّمة ابن عابدين عن أئمة الفقه الحنفي إذ يقرِّرون أن الجهاد فرض عين إن هجم العدو على بلد مسلم، وذلك على من يقرب من العدو أولًا، فإن عجزوا أو تكاسلوا فعلى من يليهم، ثم من يليهم، حتى يفترض -على هذا التدرج- على المسلمين شرقًا وغربًا (القرضاوي، الوطن والمواطنة، ص 36)، وهذا متفق عليه بين الأئمة جميعًا.

والعجيب أن يقرّر فقهاء الإسلام وجوب الدفاع عن البلد المسلم المعتدى عليه، وإن تقاعس أهله أنفسهم في الدفاع عنه لأن هذا البلد ليس ملك أهله وحدهم، ولكنه باعتباره جزءًا من دار الإسلام هو ملك للمسلمين جميعًا وسقوطه في يد الكفار خسارة وهزيمة للمسلمين قاطبة.

وصورة أخرى يذكرها ابن عابدين أن امرأة مسلمة إذ سُبيت بالمشرق، وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر، وإن استغرق ذلك أموالهم.

وهكذا قرَّر القرآن والسنة أن المسلمين أمة واحدة «يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» (القرضاوي، الوطن والمواطنة، ص 37).

 

الغلو في الوطنية

وتحدث المشكلة أيضًا حين يغلو بعض الوطنيين في فكرة الوطنية، أو عاطفة الوطنية، إذ نرى بعضهم يجعلون الوطن مقابل «الدين» أو بديلًا عن «الله»، فكما تبدأ الأمور باسم الله، تبدأ باسم الوطن، وكما يقسم الناس بالله يقسمون بالوطن، وكما يعمل الناس لوجه الله يعملون لوجه الوطن، وكأن الوطن أصبح إلهًا، أو وثنًا يشركونه مع الله عز وجل، مع أن المسلم قد جعل محياه ومماته كما جعل صلاته ونسكه لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

والحس الديني عند المسلم يرفض أن يقرن باسم الله اسمًا آخر ، أو يقسم بأحد أو بشيء مع الله، أو يعمل عملًا لوجه غير وجه الله، ناهيك أن يفرده.

«والوطنية» مشروعة ومطلوبة إذا لم تتجه هذا الاتجاه الغالي، فإن الغلو في كل شيء يفسده، وقد رأينا الإسلام يحذر أشد التحذير من الغلو في الدين، وكذلك الغلو في الوطن والوطنية.

ورأينا ذلك في النزعات النازية والفاشية في أوروبا في أواسط القرن الـ20، من رفع شعارات "ألمانيا فوق الجميع"، و"إيطاليا فوق الجميع"، والإسلام يعلّم المسلم أن يدور مع الحق حيث دار، وأن يقول الحق وإن كان مرًّا، وأن يكون قوَّامًا بالقسط شهيدًا لله، ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، وكذلك لا يجرمنّه شنآن قوم على ألا يعدل، بل يجب أن يقوم بالقسط مع من يحبُّ ومع من يكره، فعدل الله لجميع عباد الله، وقد أنكر الإسلام العصبية بكل أنواعها، سواء أكانت عصبية قبلية، أم عصبية قومية، أم عصبية إقليمية، أم أي عصبية كانت (الوطن والمواطنة ص 36).

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قاتل تحت راية عمية يغضب لعَصبَة، أو يدعو إلى عَصَبة، أو ينصر عصَبة فقُتل، فقِتْلةٌ جاهلية» (مسلم رقم 7944).

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.