شعار قسم مدونات

آخر الدموع على أوراق السجون..!

مدونات - أسير مسجون سجن معتقل
مدونات - أسير مسجون سجن معتقل (رويترز)

 

كان عمران ينظر من النافذة الصغيرة ذات القضبان السميكة، حين بزغ ضوء الفجر خافتاً لا يكاد يُرى بعد ليل طويل أرهقه دون نوم أو راحة، حيث يقبع في زنزانته الانفرادية منذ 1665 يوما، حفر في كل يوم خطا على جدران الزنزانة حتى لم يعد هناك مكان لخط جديد ويوم جديد، يمسك بيده قلما رصاصا وورقة، وباليد الأخرى يمسك قضبان النافذة علّها ترأف بحاله ليخرج ويرى النور ويعود لأطفاله الصغار مرة أخرى، أطفاله الذين دخل السجن من أجلهم عندما اختلس من خزنة البريد الذي كان يعمل به مبلغا من المال ليعالج طفله الذي كاد يموت، وحين قال في المحكمة إنه سرق من أجل إنقاذ طفله من الموت لم يلتفت إليه أحد وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر، فصرخ أن ذلك ظلم، والكل سارق في هذه البلدة حتى الوالي الذي يدعي النزاهة هو أكبر اللصوص وسيدهم، فكانت صرخته تلك وكلماته بوابة الجحيم الذي يعيش فيه حتى الآن، فمن ستة أشهر أصبح الحكم سبع سنوات عجاف سيقضيها في مرارة الذل والمهانة، فنحن في وطن سرقة المال العام فيه أهون بكثير من إساءة بحق الوالي.!!

 

كان عمران شابا خلوقا طموحا لديه أسرة صغيرة، تراكمت أعباء الحياة عليه من كل جانب، واجتمعت عليه خناجر الدنيا تطعن فيه طعنة تلو أخرى حتى خارت قواه وما عاد يقوى على الوقوف، الدَين ثقيل، والدخل قليل بالكاد يكفي فتات خبز لتلك الأفواه الجائعة بعد أن تقاسمه الدولة في لقمة عيشه بالماء والكهرباء والضرائب والرسوم، لم يعد يدري ماذا يفعل وأين يذهب، فأصحاب الدّين كُثر، ولم يعد هناك من يقبل أن يعطيه أي شيء دون أن يدفع، وكل شيءٍ في بلدتنا له ثمن، الخبزُ له ثمن والماء له ثمن والدفءُ له ثمن، حتى الاسم له ثمن، إلا الإنسان فإنه في بلدتنا بلا ثمن، شجيرات حديقة السلطان أغلى من كرامته، وبلاط مسبح السلطان أثمن من حريته، بل إن كلاب زوجة السلطان المدللة لها قيمة أكبر من أطفاله وأسرته!!

عمران يحب وطنه لكنه يشعر بالظلم، يعشق ترابه لكنه لا يملك من أرضه مأوىً ولا بيتا، يتنفس هواءه لكن صدره مختنق من كثرة الهموم، عمران يعيش في وطنه لكنه غريب، مع أن أحلامه بسيطة وأمانيّه سخيفة، فكلها لو اجتمعت تكاد تكون مصروفا ليلةٍ واحدة من ليالي لص من لصوص السلطان وحاشيته، بل إن أحلام كل سكان الحي الذي يقطنه من بيوت تؤوي المساكين، أو وظائف للعاطلين، أو زواج للعوانس والعانسين، لا تعادل تكاليف رحلة من رحلات استجمام السلطان بالهند أو الصين، ومع ذلك لم يشتك يوما أو يمد يده للمال الحرام خوفا من رب العالمين..

عمران مسكين، موظف بسيط يتآكل معاشه في سويعات قبل أن يصل بيته، كأنه فريسة وقعت بين أنياب الوحوش، فريسة ضعيفة صغيرة، الكل ينهش من لحمها، زميله يأخذ دينه، والكهرباء والماء تأخذ حصتها من لحم الفريسة، والبقال يأخذ منها ما تيسر، والحصة الأكبر لصاحب البيت الذي ينتظره يوم الراتب كأنه زرعٌ يابس ينتظر المطر، فيدخل عمران بيته ليس في جعبته إلا حفنةٌ صغيرةٌ من عظام الفريسة، يبتسم لزوجته التي تبتسم له وكلاهما في داخله يبكي من الألم، أطفاله الصغار حوله ملخص أحلامهم بضع قطع من اللحم الذي لم يشاهدوه في حياتهم إلا في الصور، أو من زجاج محل اللحم في زاوية الشارع.

 

ارتمى عمران في سريره المتهالك وعيناه تتوق للنوم بعد إرهاق طويل، لكن وإن نامت العين فالفكر لا ينام، مكتوب عليه الأرق، لعل النوم أيضا في بلدتنا بات له ثمن لم يستطع دفعه. وفي تداخل نومه وصحوه استيقظ مفزوعا على صراخ زوجته تهزه بشدة، انهض يا عمران طفلنا في حال سيئةٍ من المرض وما عاد يقوى على الحراك، وثب من سريره وثبة الملهوف الذي وإن جارت الدنيا عليه سيبقى الأب الحاني على أطفاله، حمله بين ذراعيه كأنه قطعة من القماش لا يقوى على النهوض، وانطلق مسرعا إلى المستشفى.

دخل عمران لقسم الطوارئ يغلي كالجمر، فقابلوه بالبرود وكل همهم أن يضع مبلغا في الأمانات لحساب العلاج، مرت ساعات الليل ثقيلة عليه كأنها دهر، وخوفه على صغيره زاد من ثقلها حتى خرج الطبيب قرب الفجر يخبره أن ابنه يحتاج لعملية مستعجلة لا بد من إجرائها فورا، لكن يجب عليه أن يدفع المال أولا، خرج عمران هائما على وجهه في شوارع البلدة، لا يعرف أين يذهب وماذا يفعل في محنته، مضت ساعة تلو ساعة وجد نفسه أمام مقر عمله يجلس أمام بابه يحمل الجبال فوق صدره.

انتظر عمران قدوم الساعي ليفتح الأبواب، دخل إلى مكتبه ورمى بنفسه على كرسيه، وما لبثت أن تساقطت حبات من دموعه على أوراقه المبعثرة، دموع من شدة الحرقة كادت تحرق الزجاج والخشب، وتحرق البلدة وكل هذا الكون الذي لا يعرف للفقير سوى المعاناة والألم، وقعت عيناه المغرورقتان بالدموع على الخزنة، بل إنه شاهد الأموال داخل الخزنة رغم أنها مقفلة، فالملهوف يرى ما ينقذه حتى وإن حجبته السواتر، ودون تفكير أخرج مفاتيحه وفتح الخزنة وأخذ حزمة من النقود ثم أغلقها ومضى إلى المستشفى حيث يرقد طفله الصغير يتشبث بهذه الحياة التي لو عرف ما فيها لاختار الموت على سريره دونما تردد.

 

دفع عمران أجرة العملية، وتعافى طفله الصغير من مرضه بعد أيام، حمله عائدا به لمنزله ورأى عيون طفله ترمق اللحم من خلف زجاج المحل، فدخل واشترى اللحم الذي كانت فرحة العائلة به أكبر من فرحتها بعودة ابنها سالما من المستشفى..!! لكن تلك الفرحة الصغيرة لم تدم طويلا فقد أفسدتها طرقات قوية على الباب، وأمام الباب كان جيش مدرعٌ من الجنود كأنهم ذاهبون للحرب كلهم جاؤوا لعمران، كأنه إرهابي لعين أو مجرم خطير، اقتادوه دون رحمة للتحقيق، لماذا سرقت أموال الدولة يا عمران؟ لأعالج إبني يا سيدي، وهل كل من لديه مريض يسرق ليعالجه؟ لم يكن أمامي خيار يا سيدي، غدا في المحكمة سينظر القاضي في أمرك.

حضرة القاضي أقسم لك أنني لم أسرق سوى لأدفع تكاليف علاج ابني المريض، وللأمانة اشتريت من المال وجبة لحم لعائلتي. لقد ثبت عليك الجرم يا عمران ولا بد من الحكم عليك. يا سيدي لو كان العلاج في بلدتنا مجانا كما في البلدات الأخرى لما سرقت.. لا تكثر الكلام يا عمران، حكمنا عليك بالسجن ستة شهور ودفع المبلغ المسروق، رفعت الجلسة.. هذا ظلم، صرخ عمران، ظلم يا سيدي، ظلم، كلكم لصوص، حتى الوالي من يغدقنا بخُطب النزاهة هو أكبر اللصوص، كانت هذه آخر كلمات عمران في المحكمة لأن كل جيش المحكمة قد هجم عليه هجوم الوحوش تنزل على رأسه هراواتهم حتى فقد الوعي.

 

استيقظ عمران فوجد نفسه في ظلام دامس، والأوجاع في كل مكان في جسده، وشيئا فشيئا اعتادت عيناه الظلام وعرف أنه في زنزانة سقفها منخفض لا تتجاوز مساحتها عدة أمتار، تعلوها نافذة من خلفها قضبان سميكة تكاد تحجب ما وراءها، وفي زاوية الزنزانة ركن لقضاء الحاجة، وفجأة فتحت طاقة صغيرة من أسفل الباب، ثم وعاء يدخل به بعض الخبز وقارورة ماء صغيرة، ما الذي يجري؟ بدأ عمران يسترجع الأحداث حتى أدرك كل ما حدث، وعرف أنه في بلادنا كل شيء يغفر إلا الإساءة للوالي، جلس عمران لا يدري ماذا يفعل حتى فكر وتمدد أمام الباب ينتظر الطاقة أن تفتح، وما إن فتحت حتى مد يده ومسك اليد التي تناوله الطعام: أرجوك يا سيدي انتظر لحظة، ماذا حدث لي لما أنا هنا؟ أتسبُّ والينا وتسأل لما أنت هنا؟ يا لك من وقح، حُكم عليك بالسجن سبع سنوات، واحمد الله أن الوالي لم يأمر بقتلك، وكفى الآن فأنا لا يسمح لي بالتحدث معك أبدا، وأغلقت الطاقة وقد أغلق معها الكون أمام عمران.

 

مرّت الأيام والأيام وكان عمران يسجل كل يوم بخط طولي صغير على الحائط بقلم وجده ملقى بالزنزانة لعل من كان قبله تركه ليؤنس وحدة من يأتي بعده، وكل تسعة أيام كان يضع خطا أفقيا ليكملها عشرة، وعشرة تلو عشرة تلو عشرة، ومئة تلو مئة لا يتكلم بها مع أحد حتى كاد يفقد النطق، ولا يسمع سوى صوت الطاقة في أسفل الباب حين تفتح وتغلق من أجل إحضار طبق الطعام واستلام الأطباق الفارغة من الأيام السابقة، حتى أصبح ينتظر ذلك الصوت بلهفة ليكسر صمت الظلام المخيف..

أيام وأيام وشهور وسنين تمر وعمران خارج هذا الكوكب، وكل هذا بسبب كلمة صرخت بها روحه من شدة ألمه، كان يرى طيف أطفاله الصغار على جدران الزنزانة، آآآه كم هو مشتاق لهم، يريد احتضانهم بشدة ويبقى يحتضنهم حتى تنتهي حياته المليئة بالأحزان والألم، تمدد ثانية أمام الباب ينتظر الطاقة أن تفتح، ومسك اليد الوحيدة التي رآها منذ سنوات، أرجوك يا سيدي أريد فقط ورقة، ورقة فقط يا سيدي، هكذا أصبحت أحلام عمران وأمنياته في بلادنا، ورقة.

بعد برهة من الزمن فتحت الطاقة ثانيةً، ودخلت تلك اليد تحمل ورقة بيضاء ألقتها أمام عمران، وكم كانت فرحته كبيرة بها، الآن أصبح معه شيءٌ آخر في عالمه المظلم، غير القلم ووعاء الطعام، شيءٌ ثمين جدا، ورقة يستطيع أن يرسم عليها ما يريد أو يكتب ما يشاء، فجدران الزنزانة ما عادت تتسع لشيء وكلها خطوط تجسد أيامه وآلامه، بدأ عمران يعدُّ الخطوط، واحد اثنان ثلاثة.. مئة وستة وخمسون، ثلاثمئة وتسع وتسعون، ألف ومئة وخمسون، ألف وستمئة وخمسة وستون يوما..!!

 

فتحت الطاقة مرة أخرى وأخرى وأخرى، ولكن هناك شيء ما، أحس صاحب اليد أن شيئاً يحدث بالداخل، فمنذ أيام لم يسمع أنفاس المسجون، وأطباق الطعام أمام الطاقة كما هي، تردد في فتح الباب فلا يجوز له ذلك، لكنه أخيرا فُتح ذلك الباب اللعين ولكن بعد فوات الأوان، ودخل النور إلى تلك الغرفة بعد سنين من الظلام، ليشاهد السجّان سجينه عمران ممدا على الأرض مفارقا للحياة وبيده الورقة يقبض عليها بشدة، وجدران الزنزانة تمتلئ بألف وستمئة وستة وستين خطاً كان آخرها قرب النافذة الصغيرة، انتزع السجّان الورقة من يد عمران فوجد فيها رسما مرتعشا لنافذةٍ مفتوحة وشمس تشرق من ورائها، ووجد قطرة من الدموع على الورقة امتزجت بالرسم، تلك كانت آخر دموع عمران.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.