شعار قسم مدونات

لبنان.. بداية انعطاف جديد

 

27 فبراير/شباط 2021، تاريخ مفصلي في المشهد السياسي اللبناني، خصوصا بعد انسداد أفق الحلول لعدة ملفات أساسية، منها ملف تأليف الحكومة والتحقيق في قضية المرفأ، بالرغم من تردي الوضع الاقتصادي والتخبط السياسي حتى وصلت الليرة اللبنانية نتيجة ذلك التخبط والانهيار إلى انخفاض قياسي، وبقاء الوضع بهذا الشكل سوف يؤدي إلى انفجار اجتماعي كارثي، حينها سوف تزداد حالات الانتحار والسرقة والقتل والتعدي، ناهيك عن ارتفاع في معدلات الطلاق والزنا و انخفاض في نسبة الزواج؛ والمدهش أنه رغم كل تلك المآسي، إلا أن الطبقة السياسية في لبنان ما زالت مستمرة في مسارها التدميري لكل شيء بحجة التوازن الطائفي في كل التشكيلات وأهمها الحكومية.

ثم حدثت سلسلةٌ من عمليات الاغتيال طالت شخصيات منها معارضة لحزب الله، ومنها من يملك معلومات عن تفجير المرفأ، كل هذه الأحداث الدراماتيكية دفعت البطريرك بشارة الراعي إلى رفع سقف خطابه السياسي، الذي بدأه ممهدا بطرح قضية الحياد وصولا إلى طرح تدويل الأزمة اللبنانية وعقد مؤتمر دولي برعاية أممية لإنهاء قضية السلاح. طبعا، يُعد هذا الطرح نقلة نوعية في سياسة البطريركية في مواجهة حزب الله، صديق الأمس عدو اليوم.

السؤال هو: هل هذه المواجهة الملفتة هي للحفاظ على الوطن أو على الحضور المسيحي في الشرق؟

 

لقد كانت اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، خريطة لشرق أوسط جديد، والذي نصّ على إنشاء كيان صهيوني في فلسطين وكيان مسيحي موازٍ لإسرائيل في لبنان، بمعنى آخر أن لبنان وُلد ككيان مسيحي يتمتع فيه الموارنة بصلاحيات واسعة في كل مؤسسات الدولة ابتداء من رئيس الجمهورية، مع العلم أن الدستور لم ينص على هذه التقسيمات؛ ولكن الأعراف أهم من الدستور في كثير من الأحيان، ثم جاءت اتفاقية رياض الصلح وبشارة الخوري التي كرست حصر الرئاسة بالطائفة المارونية. لن ندخل في تفاصيل كيفية إنشاء هذا الكيان؛ لأنها تحتاج إلى الكثير من التفاصيل، لكن خلاصة القول، إن لبنان هو كيانٌ وظيفي إحدى مهماته الحفاظ على مسيحيّ الشرق.

إن اتفاقية سايكس بيكو، أنشأت كيانات سياسية وظيفية لأجل مسمى، من ضمنهم لبنان الذي قد شارف دوره على الانتهاء اليوم، يقول ميشال شيحا أحد كتّاب الدستور اللبناني أن لبنان قائم على عنصريين "القطاع المصرفي والمرفأ"، وهذان القطاعان تم تدميرهما بشكل ممنهج، وهذا يعني أن دور لبنان قد انتهى، فهنا جاء تحرك البطريرك الذي رأى أن لبنان المسيحي أصبح في خطر ومهددا. من هنا رفع البطريرك خطابه السياسي، وبدأ يحشد كل طاقاته لاستقطاب كل المكونات السياسية التي ترفع لواء معاداة حزب الله، ثم بدأت الحشود تزحف لدعم البطريرك في موقفه.

 

المشكلة التي تعيشها شعوبنا العربية وخصوصا في لبنان، أننا شعوب عاطفية تنسى ولا تقرأ التاريخ جيدا، إذا عدنا بالتاريخ إلى الوراء قليلا سوف نرى أن مواقف البطريرك مغايرة نهائيا، ففي سنة 2014 قال إنه لولا حزب الله لكانت داعش في جونية، كما أنه في الوقت الذي كان فيه السوريون يدفعون ثمن مواقفهم المعادية للنظام السوري والنظام الإيراني من قتل وتهجير، كان البطريرك يزور دمشق متناسيا دماء مئات الآلاف. وعلى المقلب الآخر، إن اليمين المسيحي بقيادة الكتائب هو من طلب من النظام السوري الدخول إلى لبنان بعد أن أصبح وجودهم في خطر، ذلك بسبب الانتصارات التي حققتها الجبهة الوطنية وقوات ياسر عرفات، فدخل الجيش السوري وبقي في لبنان حتى سنة 2005، بموافقة أميركية مقابل دعمهم في الحرب على صدام حسين في العراق. وفي 2007 حينما كان الزحف البشري يتأهب للصعود لبعبدا لإسقاط إميل لحود، وقف البطريرك صفير في وجه حركة "14 آذار" وقال إن رئيس الجمهورية خط أحمر، ثم تكرر المشهد مرة أخرى، في ثورة 17 تشرين، حينها قال أيضا أن ميشال عون خط أحمر، فهذان الرجلان مواليان للخط الإيراني؛ إلا أنه حتى اليوم لم يصرّح علانية بطلب من الرئيس الجمهورية بالاستقالة. وكما هو معروف أن تيار الرئيس هو من يعطي لحزب الله الغطاء المسيحي.

 

أما في قضية التدويل، لا بد من قراءة الموضوع بشكل مختلف، إن قضية مرفأ بيروت هي تفجير وليست انفجار، السيناريو الأكثر قبولا لدى معظم الناس، هي على الشكل التالي إسرائيل قصفت المرفأ؛ لكنها لم تتوقع حجم الدمار الذي حصل فتنكرت، والمواد التي انفجرت هي تابعة لحزب الله، وعادة أي حدث أمني يصرح الحزب أن إسرائيل هي التي قامت بهذا الفعل أو يتهمها مباشرة، ولكن في هذه القضية لم يعلق حزب الله إطلاقا، في اللحظات الأولى من الانفجار وضع بنيامين نتنياهو تغريدة يقول فيها بشكل واضح أن إسرائيل هي وراء ذاك التفجير، ثم سُحبت تلك التغريدة.

المطالب الشعبية بقيادة البطريرك التي تطالب بالعدالة الدولية هي محقة؛ لكن للأسف ما حصل هو من ضمن الخطة، تم ضرب القطاع المصرفي ثم جاء ضرب المرفأ وحتى لو أُعيد بناؤه، لقد تم ضرب دوره الوظيفي وانتقل إلى مكان آخر، حتى دور لبنان السياحي انتقل إلى أماكن أخرى والأيدي العاملة تم الاستغناء عنها، وكل الاستثمارات الأجنبية انتقلت إلى مناطق أكثر أمانا، فالعدالة لن تتحقق لأنها لا تتلاقى مع المصالح الدولية، وهناك الكثير من الأمثلة مثل قضية جمال خاشقجي وبنيظير بوتو ورفيق الحريري وغيرهم، فلقد سعت الكثير من الجهات لطلب المساعدة من السفارات الأجنبية في قضية المرفأ، من ضمنهم نقيب المحامين ملحم خلف؛ لكن كل مساعيهم باءت بالفشل، لأن الغرب غير مهتم بهذه القضية.

 

المشكلة الكبرى أن إدارة بايدن اليوم تسعى للضغط على إيران للجلوس معها على طاولة المفاوضات، وذلك من مبدأ تخفيف التزامات واشنطن في المنطقة والاهتمام بملفاتٍ أكبر وأهم؛ مثل كورونا ومواجهة الصين وإعادة العلاقات الأميركية الأوروبية إلى مكانها الصحيح خصوصا بعد تدميرها في عهد ترامب، هذه القضايا جعلت أميركا تسلم فرنسا الملف اللبناني؛ لكن بين فرنسا وإيران صفقات تجارية تصل إلى 100 مليار دولار، هذا يعني أن لبنان ليس ضمن الأولويات الدولية، والمزاج الدولي مختلف تماما عن سنة 1975 وسنة 2005، إضافة إلى ذلك فماذا سوف يقدم لبنان للأميركيين والفرنسيين مقابل التدخل؟

وسؤال آخر ماذا فعل التدويل في سوريا والعراق واليمن؟ من مكن الإيرانيين في العراق؟

من سمح لحزب الله والإيرانيين بالدخول إلى السوريا؟

من سمح للروس بالوجود على الأراضي السوري وسحق كل الفصائل المعارضة للمشروع الإيراني؟

 

علينا أن ندرك أن سلاح حزب الله يشبه السلاح الفلسطيني في 1975، هذا السلاح لم يتم نزعه إلا من خلال توافق دولي وحرب ضروس أدت إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولا لبيروت لاجتثاث ذلك السلاح، المجتمع الدولي لا يريد إزالة النظام الإيراني إنما تهذيبه فقط، التاريخ يعيد نفسه؛ لكن بشكلٍ مختلف إلا أنه بالمضمون نفسه، قد يتم توكيل الملف اللبناني إلى إيران ضمن صفقة كما حصل في 1990 حينما تم توكيل النظام السوري بإدارة الملف اللبناني، ما يهم الأميركي هو إبقاء الحدود منطقة هادئة، والقادر اليوم على ضبط الحدود هو حزب الله والنظام السوري والإيراني، لذلك النظام لم يسقط، وحزب الله اليوم هو حاجة دولية لإبقاء تلك الحدود منقطة آمنة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.