شعار قسم مدونات

لا تركنوا إلى الغرب

 

يوما بعد يوم، تعلو الأصوات في لبنان تنادي بالتدخل الخارجي للحد من الهيمنة الفارسية، وتوغله بكل مفاصل الدولة اللبنانية، وتفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية، وبطش حزب الله من خلال قواته العسكرية العابرة للبلاد، التي انغمست بسفك دماء العراقيين والسوريين واليمنيين، وهو متهم بعمليات الاغتيال، لشخصيات سياسية وناشطين ومناهضين لسياسته وسلاحه، وكان آخرها اغتيال الناشط والكاتب لقمان سليم، وهو معارض لحزب الله والهيمنة الإيرانية.

بدأت حركات مدنية وثورية، بعضها تشكل بعد ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول، وبعضها تشكل قبل تلك الانتفاضة، برفع الصوت عاليا، وكتابة بيانات وتوجيهات، إلى سفارات أوروبا وأميركا، باعتبارهم المنقذ من عملية فرسنة لبنان، وسحب السلاح المتفلت على رأسهم حزب الله، وتحقيق العدالة وجلب القتلة الذين قتلوا تلك الشخصيات مثل سمير قصير وجبران تويني وغيرهما، وبسبب تقاعص وخضوع القضاء للسلطة السياسية وتسيس القضاء، كل هذه الأسباب، شجعت بعض أطراف الحراك للتوجه نحو السفارات والأمم المتحدة، كما أنهم طالبوا بإعلان لبنان دولة فاشلة، وطالبوا بالوصاية الدولية على تلك البقعة الجغرافية الصغيرة، التي تعاني من تعقيدات فكرية وتجاذبات سياسية وطائفية مرتبطة مباشرة بالصراع الدولي والإقليمي.

ومن أهم الأسباب الأساسية في عالمنا العربي، التي أدت إلى ذاك الفراغ القاتل، على المستوى الفكري والانحطاطي السياسي، هو عدم إلمام متصدري الشأن العام، بالجغرافيا السياسية والتاريخ السياسي الحديث والقديم، وهذا ما أدى إلى أزمات متراكمة، تكاد لا تنتهي؛ بسبب تعقيداتها.

ويعيش المواطن العربي عموما واللبناني خصوصا، في حالة من التراجع الحضاري، ونقص في الحقل المعرفي للتجارب الإنسانية، وهذه العلة، مكنت السلطات الفاسدة من السيطرة على عقول الجماهير، من خلال سيكولوجيا الجماهير التي تكلم عنها جوستاف لوبان، والأساليب العشرة للسيطرة على الشعوب، التي تكلم عنها نعوم تشومسكي، إن أولى الأسلحة التي يجب أن يتمتع بها أي إنسان معارض، أو ثائر على السلطة السياسية، هي القوانين العامة التي تسير السياسة والسياسات الدولية، حتى في القرآن الكريم، هناك آيات تتكلم عن أهمية التاريخ، حين قال الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، ففي هذه الآية دلالة واضحة على أن قراءة التاريخ بتمعن، هو جزء من الفهم السياسي.

يقول الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال "لا تركنوا إلى الغرب"، طبعا هذه المقولة تعبر بوضوح عن عدم الاعتماد على الدول الخارجية، استنادا لتاريخ مليء بالذكريات السيئة على رأسها الموجات الاستعمارية ثم الاستحمارية، طبعا لست هنا لشيطنة الدول الغربية، إطلاقا، إنما لإظهار أن تلك الدول تقوم على الفلسفة النفعية والمادية ومصالحها الخاصة، وهذا شيء طبيعي، تلك الدول تسعى أن تتصدر المشهد العالمي؛ للسيطرة عبر إفقار الشعوب وإغراقها في الجهل والظلام، فهي ليست جمعيات خيرية إطلاقا، فالعدالة الدولية هي نسبية، تتطبق وفقا للمصالح الإستراتيجية والضغوط السياسية وتحقيق المآرب.

في العلاقات الدولية، ليس هناك عمل بالمجان أو لتحقيق مطالب الشعوب إطلاقا، هناك مصالح تحقق العدالة إن توافقت معها. والمثال الأول على ذلك العراق، حيث جاء الأميركي ليُسقط النظام العراقي بحجة امتلاكه أسلحة بيولوجية وكيميائية، وتصديره للإرهابيين الذين يقاتلون في أفغانستان، طبعا هذا كلام غير صحيح، حتى هوليود التي تعد أحد أذرع الإدارة الأميركية لتسليط الضوء على سياساتها، أنتجت أفلاما عدة تنتقد فيها كذب الإدارة الأميركية مثل "المنطقة الخضراء" (Green zone)، دخل الأميركي فقط من أجل النفط، وفتح البوابة الشرقية للتمدد الإيراني، وفق مشروع برنارد لويس، الذي كان مقربا من جورج بوش الابن.

ومنذ دخول أميركا سنة 2003 العراق حتى يومنا هذا، يعيش الشعب العراقي مجازر طائفية وتراجعا فكريا وسياسيا وانحطاطا إنسانيا، تلك الدولة التي كان لديها اكتفاء ذاتي، أصبحت تستدين من الخارج؛ حيث إن الكهرباء تستورد من إيران.

أما المشهد السوري، فإن العامل الأساسي في عدم سقوط النظام السوري، الذي تهالك بعد ضربات الثوار حتى أصبحوا على مشارف قصر تشرين، وجاء التدخل الإيراني بالإيعاز الأميركي الذي كان يستطيع أن ينهي المعركة عبر إعطاء صواريخ "ستينغر" (Stinger) للثوار كما حصل في أفغانستان؛ لكن إسرائيل لا تقبل، وهي تريد سوريا بقيادة النظام السوري الحالي، دولة ضعيفة وهجينة ومفتتة، واليوم للأسف، سوريا لن تنهض قبل عشرات السنوات، ضُربت الغوطة بالكيميائي، ولم تتحرك العدالة الدولية إطلاقا.

يعتقد الكثيرون، أن العداء بين الأميركي والإيراني هو عداء مطلق، هذا الكلام سطحي وغير دقيق، العداء ليس مُطلقا، ليس هناك عدو دائم وصديق دائم، هناك مصلحة دائمة، فهو عداء جغرافي، بمعنى أن الأميركي يريد الإيراني؛ لكن وفق رؤيته الخاصة، التي تحقق مصالحه. العدالة الغربية هي كذبة صدقها المثقف الهزيل الغير عميق، أين العدالة الدولية في قضية جمال خاشقجي؟ أين العدالة الدولية في اغتيال رفيق الحريري؟ أين العدالة الدولية في قضية محمد مرسي؟ ليس هناك عدالة إطلاقا، هذا المنطق فهمه جيدا التركي، وهو حليف مهم للأميركي، وخصوصا في الحرب الباردة وحلف بغداد ووضع صواريخ "جوبيتر" (Jupiter) الموجهة ضد الاتحاد السوفياتي، وهو ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، رغم تلك العلاقة الإستراتيجية والعميقة؛ إلا أن ذلك لم يمنع الغرب أن يتحالف مع عبدالله غولن، كي يطيحوا بأرودغان سنة 2016 عبر محاولة انقلاب فاشلة.

لا تركنوا إلى الخارج، لا تركنوا إلى الشرق ولا إلى الغرب، اركنوا إلى أوطانكم، اركنوا إلى شعبكم وأهلكم، أقيموا علاقات ندية مع الخارج، لا خلاص لنا إلا من خلال النضال الداخلي، من خلال تربية أجيال تستطيع أن تضحي وتحقق الخلاص لأوطاننا من الفرسنة والتغريب والتطبيع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.