شعار قسم مدونات

غزوة بدر.. استثمار معطيات المكان

blogs غزو

إن اختزال أسباب غزوة بدر في محاولة الاستيلاء على قافلة تجارية لقريش قرب الحدود الجغرافية لسلطة يثرب يتجاوز الواقع وسياق التاريخ؛ إذ إنها حلقة في مسلسل طويل من الصراع بين الحق والباطل، بين قوى الإيمان والكفر، واستثمر النبي صلى الله عليه وسلم الأبعاد المكانية لتحقيق النصر في هذه المعركة الفاصلة.

  

(1)

عقب وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب شرع في وضع الأسس المدنية لبناء دولة الإسلام؛ مثل بناء المسجد الجامع، والتآخي بين قبائل المدينة المتصارعة، وأمر لأول مرة بإجراء تعداد سكاني لبيان التركيبة الديموغرافية لمجتمع المدينة، ومن ثم وضع ميثاقا أشبه بالدستور في يومنا هذا، يوضح فيه طبيعة العلاقات داخل المجتمع الناشئ؛ بين المسلمين بعضهم البعض من ناحية، وبينهم وبين غير المسلمين المقيمين معهم في المجتمع نفسه من ناحية أخرى.

 

وبعد تأمين الجبهة الداخلية للمدينة، تطلع المسلمون إلى ممارسة التأثير السياسي على الامتداد الجغرافي للدولة الناشئة؛ عبر البعوث والسرايا، وعقد التحالفات والاتفاقات مع القبائل المتناثرة في المحيط القريب، والتي ترتبط ارتباطا اقتصاديا مباشرا مع أسواق المدينة التجارية، والتي لن تجد بديلا سياسيا لرفض مثل هذا التحالف مع مسلمي المدينة، وكثير من هذه القبائل كان يقع على طريق تجارة قريش المتجهة شمالا، ومن هنا ظهرت براعة النبي الكريم في التخطيط الاستراتيجي، ليكون للمسلمين عناصر قوة تهدد مكة في أهم مواردها الاقتصادية.

 

بعد فرار القافلة، لم يكن المسلمون راغبين في بدء معركة كبيرة مع قريش، لكن مجريات الأحداث حتمت عليهم مواجهة عسكرية بحجم معركة بدر

ولم يغب هذا التخطيط عن سادة قريش وزعمائها، فسرعان ما فطنوا إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم هذه؛ ومن ثم أخذوا مواقف عدائية ليس لضرب المسلمين كما كان يحدث في مكة قبل الهجرة، بل بوصفهم قوة تستند إلى دولة لها أبعاد مكانية ورؤى سياسية تهدد مكة وسيادتها الدينية والسياسية في الجزيرة العربية كلها، فأصبح أهل المدينة أهلَ حرب بالنسبة لهم، وهذا تغير كبير في نظرة زعماء مكة ليثرب لم يكن موجودا من قبل، لأنه ليس من مصلحتهم أبدا وجود تهديد يغلق عليهم طريق تجارتهم.

 

وربما يدلل على ذلك موقف أبي جهل من سعد بن معاذ، عندما رآه يطوف بالكعبة، حيث هدده بالقتل، فرد عليه سعد قائلا: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى المدينة. أي طريق تجارة قريش الذي يمر بالمدينة، لذلك عندما خرجت قوة من المدينة تمثل تهديدا حقيقيا لرأس مال قريش وتجارتها، من أجل اعتراض القافلة؛ كان وقع الخبر شديدًا على قريش، التي اشتاط زعماؤها غضبًا لما يرونه من امتهان للكرامة، وتعريض المصالح الاقتصادية للأخطار، إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاط لمكانة قريش بين القبائل العربية؛ ولذلك خرجوا لأرض "بدر" لوضع حد لهذا التطاول.

 

(2)

بعد فرار القافلة، لم يكن المسلمون راغبين في بدء معركة كبيرة مع قريش، لكن مجريات الأحداث حتمت عليهم مواجهة عسكرية بحجم معركة بدر، وهنا تجلت البراعة العسكرية للنبي صلى الله عليه وسلم في استثمار الأبعاد المكانية لأرض المعركة، وقام بالاستعداد مبكرا عبر مجموعة من الإجراءات:

 

في معركة بدر تضافر الأخذ بالأسباب والاجتهاد مع توفيق الله تعالى وتأييده؛ ففي عالم الأسباب كشف النبي عن قدراته البشرية في الاستعداد للقتال وصحة القرار العسكري

1- الخروج المبكر قبل جيش العدو لأرض المعركة، وجمع المعلومات الاستخبارية عنه، ومعرفة كل الإمكانات التي يتمتع بها، ومن ثم وصل أولا إلى أرض بدر.

2- اختار النبي أن يعسكر جيش المسلمين بجوار ماء بدر، وأن تكون آبار الماء خلف المسلمين، فيمكنهم الوصول إليها، ولا يتوفر الأمر لجيش المشركين، فيشرب المسلمون ويعطش جيش العدو ودوابهم.

3- أتاح وصول المسلمين أولا لأرض المعركة حرية اختيار المكان الذي ينطلقون منه إلى ساحة الحرب، وكان أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشمس من وراء المسلمين، حتى إذا بدأت الحرب كانت الشمس مواجهة لجيش المشركين، فتصيب أعينهم بالعشا، وفي ذلك توظيف عظيم لسلاح من الطبيعة.

4- بنى المسلمون عريشا للنبي يدير منه ساحة القتال، ليكون مطلعا على ما يجري من أحداث.

5- عندما نزل النبي صلى الله عليه وسلم أرض المعركة عسكر في منطقة سهلة منبسطة، فأتاح ذلك أن يرصّ المسلمين في صفوف منتظمة، فظهروا في أعين العدو أضعاف عددهم، فقذف الله الرعب في قلوب المشركين.

  

(3)

ولما بدأت المعركة، وبعد أن استنفد النبي صلى الله عليه وسلم كل الأسباب المادية التي يطيقها جهده البشري، لجأ إلى القوة القاهرة، إلى السماء، يطلب من الله تعالى أن يمده بأسباب النصر التي لم تعد في قدرته، ولكنها توفيق الله تعالى ومشيئته؛ فكان المطر الذي طهر المسلمين، والنعاس الذي أمنهم، ونزول الملائكة الذي ثبّت قلوب المؤمنين، وأثار الرعب في قلوب الكافرين، كانت غزوة بدر حدثا فاصلا بين معسكرين: معسكر اعتمد على عدده وعتاده، ودخل الميدان في كبر وخيلاء الشرك والضلال، وأراد الانتقام لكرامة الأوثان المهدرة تحت سيوف قوة المسلمين الناشئة. ومعسكر تمترس بالإيمان بالله الحق، واعتمد على هدي رسول كريم يرى بنور الله، وينطق بوحي من الله، ويستثمر مقتضيات الظروف التي يعيشها حسب جهده واجتهاد أصحابه؛ فكانت النتيجة أن جنى كل معسكر ثمرة ما زرع.

 

في معركة بدر تضافر الأخذ بالأسباب والاجتهاد مع توفيق الله تعالى وتأييده؛ ففي عالم الأسباب كشف النبي عن قدراته البشرية في الاستعداد للقتال وصحة القرار العسكري، ووظف معطيات المكان وإمكانات الطبيعة، وبث الثقة في قلوب أصحابه، ثم جاء تأييد الله سبحانه وتعالى بأمور غيبية وأسباب قاهرة مما لا تدركها القدرة البشرية، فما أحوجنا نحن المسلمين في زماننا هذا إلى الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نتعلم هذه الدروس ونجعلها منهاجا لحياتنا، خاصة أن في مثل هذا اليوم من شهر رمضان وقع هذا الانتصار العظيم، وغيره من الانتصارات الفارقة التي حققها المسلمون في هذا الشهر الفضيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.