شعار قسم مدونات

حين تكافئنا الحياة بأسوء ما لديها..

blogs تأمل

أحبّ فتاة حبّاً طاهراً بعد أن وجد فيها معظم الصفات التي تجعلها زوجة مناسبة له، سعى إليها باجتهاد، واتّبع السبل الصحيحة للظفر بها. رسم الأحلام بطرق مدروسة، وضع خطط وعاش آمال، وأخيراً وبعد أن أصبح جاهزاً وقبل أن يجف عرقه ذهب إليها طارقاً الباب، ليحوّل تلك الأحلام إلى حقيقة، وليضع الخطط قيد التنفيذ؛ فوجد غيره قد سبقه إليها وفاز بها، وأصبح حلم اقترانه بها حُلم لا يتجاوز إطار الدماغ، حلم لن يتحول إلى واقع كما أراد، وكما سعى، وكما اجتهد.. بل كانت خسارتها جزاء كل تلك الجهود.

 

قالت لي بحرقة قلب بدت في صوتها حين رأتني منهكة في رعاية أبنائي: «نتعب في تربيتهم ورعايتهم.. وحين يكبرون لا يطيعوننا»، لقد أمضت سنوات طويلة جداً من عمرها في رعاية أبنائها وتلبية احتياجاتهم؛ والآن وبعد أن ذهب شبابها لم تجد ثمار البذور التي زرعتها كما أرادت.

 

أخرى تزوّجت ابن عمّها وأحبته حباً جعلها تذكره لعشرات السنين المقبلة في حياتها، كانت تحكي لي وتقول بأنّه لم ينم طيلة بقاءهما معاً إلا على باطن خدّها، ثمّ وبعد فتنة من أحد قريباته الجاهلات تركها، فارقها بالرغم من أنّهما كانا في أوج حُبّهما، وبعد الفراق خطف ابنتهما منها، أيُحرم ذلك الكف الذي كان مخدّة حب في يوم من الأيام من أن يهنئ بملابسة جبين من يحب؟ أتكافئها الحياة هذه المكافأة؟

 

نتعلم مع الأيام والمواقف إعادة كتابة منظومة قيمنا، وإعادة تنظيم أولوياتنا في الحياة والاهتمام أكثر بالنتائج البعيدة المدى، مع الحفاظ على جمال وتناغم اللحظة الآنية

كم نخسر في هذه الحياة؟ وكم تتوجع قلوبنا؟ كم نفقد؟ وكم نستنزف من أوقات وأحلام وجهود في أشياء نفقدها نهاية المطاف، أعتقد أننا حين نقارن مرات فشلنا وخسارتنا مع مرات نجاحنا وكسبنا، سنجد أنّ مرات الفشل أكثر؛ فالفشل صديق، أما النجاح فهو كشخص نلقاه صدفة في الشارع، تبدو الحياة قاسية ومؤلمة جداً لو قارنّاها بما كنّا نراها أيّام الطفولة حيث الأحلام البريئة، حين كنّا نلقّن عبارات رنانة، تترك في القلب شوقاً ولهفة لعالم المستقبل الجميل البسيط، والقائم على معادلات أشبه ما تكون بـ(واحد زائد اثنان يساوي ثلاثة) والتي حفظناها عن ظهر غيب وآمنّا بها، منها: (من جدّ وجد..)، (من طلب العلا سهر الليالي..)، لم نعلم حينها أنّ الحياة أصعب من ذلك بكثير، وأكثر تعقيداً..

 

لكن وبالرغم من كل تلك المكافئات السيئة، تتجلى لنا حكمة الله مع الأيّام؛ فما خسرناه سنخرج منه بمكسب آخر. المكان الذي أردناه سنجد أنفسنا في مكان أفضل لنا منه، ظاهرياً قد لا يبدو كذلك. الفشل الذي كنّا نتجنّبه سنكتشف بأنّ مصادقته ليست سيئة، وسنكتشف في النهاية أنّ العبرة في الطريق وليس في المكافئات النهائية؛ فنحن مسافرون في هذه الحياة، وهناك قلم يسجّل كل ما نقوم به، وعند الله لا تخفى صغيرة ولا كبيرة، ولا مثقال حبّة من خردل، وعند الله تجتمع الخصوم، وسنجازى الجزاء الأوفى، على كل جهد، على كل تعب، على كل دمعة، ووخزة في القلب.

 

ربّما أردنا شيء فحصلنا على غيره، لنكتشف فيما بعد أنّ الجهود التي بذلناها لنيل الهدف الذي سعينا إليه، تنفعنا في الهدف الذي قدّر لنا، وأنّ الدروس التي تعلّمناها في طريق تحقيق الحلم الماضي نفعتنا في تحقيق الحلم القادم، بتدبير مبهم لم نحسب له حساب، فما يبدو أنّه قد هُدِر نراه ينفعنا فيما بعد. لنرى أنّ اليوم الذي نبكي فيه، يعقبه يوماً آخر نضحك فيه، فنعلم ونؤمن إيماناً يقينياً بأنّ الأيام دُوَل، وأنّ القادم لن يكون دائماً وأبداً جميلاً، ولا كما نخطط له، لكننا وبالرغم من كل ذلك نواصل، موقنين أننا طالما ما نقوم بما نراه الصحيح والأفضل حسب معطيات اللحظة فلن نضيع، وأن كل محطة سيئة نمر بها ستذهب، وستعقبها محطة أخرى أفضل، ثم محطة سيئة وهكذا، لكننا في كل محطة جديدة نصبح أكثر إيماناً وثباتاً ورضى.

 

ثمّ نتعلم مع الأيام والمواقف إعادة كتابة منظومة قيمنا، وإعادة تنظيم أولوياتنا في الحياة والاهتمام أكثر بالنتائج البعيدة المدى، مع الحفاظ على جمال وتناغم اللحظة الآنية. كم هو جميل أننا وبالرغم من كل تلك الصعوبات، بالرغم من كل تلك الانكسارات، بالرغم من كل تلك الدموع.. لم نستسلم ولم نحيد، بل واصلنا الطريق مؤمنين، ثابتين، رافعين أيدينا إلى الأعلى بهدوء وسلام نفسي، راجين المولى أن يتقبلنا عنده في عليين.

 

الحياة قاسية، وكثيراً ما نفشل ونخسر، لكن الأيّام تثبت لنا أنّ خسائرنا كانت مكاسب وتمهيد لدروب نجاح أتت فيما بعد، ومع تلك الدروس نزداد إيماناً ورسوخاً ونظرة بعيدة المدى، وتمضي الحياة ليس كما أردنا بالضبط، لكن جميلة وسليمة، وتبقى الأهميّة الكبرى لما بعد هذه الحياة، حيث لا يوجد انكسارات أو فشل أو خسائر، وحيث سنجد ثمار كل الجهود وجزاء كل الصبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.