شعار قسم مدونات

وجدي غنيم وتكفير السبسي وغيره

blogs السبسي

أصبح التكفير والإلزام به مسألة تُثار في كل مناسبة، وخاصةً في ظل الصراعات السياسية (مبارك، مرسي، السيسي، السبسي، …)، بل وصل الأمر بوجدي غنيم الواعظ الإخواني أن كفّر كل من يسمع أغنية "تسلم الأيادي"!. واللافت أن استمراء التكفير يَصدر عن شخصيات منخرطة في الصراع السياسي أولاً، ومن خارج التخصص العلمي ثانيًا، أي من شخصيات مسيسة ولديها ثقافة إسلامية عامة. ونظرًا لهذا لا بد من بيان يوضح المسألة من الناحية العلمية بعيدًا عن التسييس وكلام هواة التكفير.

 

التكفير وقواعده

فالتكفير له قواعد وضوابط أُجملها في نقاط محددة كالآتي:

1- الكفر عند العلماء نوعان: أصلي وعارض. فالأصلي هو الذي لم يُسبق بإسلام، والعارض هو الذي سُبق بإسلام ولكن عرَض لصاحبه مكفّر من المكفرات كما سنوضح.

 

2- ثمة قاعدة اتفق عليها العلماء وهي أن "من لم يكفر الكافر كافر"، ولكن أي كافر؟ المراد هنا حصرًا أمران: الأول: الكافر الأصلي، والثاني: من ظهرت ردته يقينًا؛ وهذا النوع من التكفير له أهميته في تحديد الوضوح العقائدي، وهو من صلب علم الكلام (اللاهوت) لدى جميع الأديان، ليحددوا هوية كل عقيدة وما يميزها عن غيرها من جهة، وليحددوا طريق النجاة (عند المسلمين) والخلاص (عند المسيحيين وغيرهم)؛ أي أن لهذا التحديد وظيفة كلامية أولاً، ووظيفة عملية ثانيًا، وهذه الوظيفة لها آثار دنيوية (من الحقوق والممارسة الاجتماعية) وأخروية (الخلاص أو النجاة يوم القيامة).

 

التكفير يقع على ثلاثة أنحاء: بالاعتقاد، أو القول، أو الفعل. ولكن الأصل أن الإيمان والكفر محله القلب؛ لأن القلب هو محل المعرفة والكسب ومصدر الأفعال

وتكفير من ظهرت ردته يقينًا مثاله: من ألقى المصحف في الزبالة عارفًا أنه مصحف؛ لأنه دليل على كفر الباطن. أما من لم تظهر ردته يقينًا فلا يدخل في الحكم إطلاقًا، ولذلك لما حكم الفقيه الشافعي ابن المقري على طائفة ابن عربي بالكفر ردّ عليه كبار علماء المذهب الشافعي وشيوخه: شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وابن حجر الهيتمي، وقالوا: إن المقري خالف إجماع الأمة!. فابن حجر الهيثمي قال:"ألا ترى أن ابن المقري لو كان غرضه النصيحة لما كان يبالغ ويقول: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر، فانتقل من الحكم عليهم بالكفر إلى الحكم على من لم يتيقن كفرهم، فانظر إلى هذا التعصب الذي بلغ الغاية وفارق به إجماع الأئمة، وانتقل به إلى كفر غير المتَيَقَّن كُفرُهم"، وقال في موضع آخر: "واعلم أن ابن المقري ذكر في روضه أن من لم يكفر طائفة ابن عربي كان كمن لم يكفر اليهود والنصارى، وهذا منه قَدْحٌ في ابن عربي وطائفته كابن الفارض وغيره، ورَمْيٌ لهم بالكفر لمعتقدهم، بل ولمن لم يكفِّرهم بالكفر!. ولقد بالغ في ذلك بما لا دليل له عليه ولا مستند يرجع إليه، وقد ردّ عليه ما قاله شيخنا خاتمة المتأخرين زكريا الأنصاري"، وقال أيضًا: "المفتي إذا سُئل عن لفظ يحتمل الكفرَ وغيرَه لا يقول: هو مهدر الدم أو مباحه أو يُقتل أو نحو ذلك، بل يقول: يُسأل عن مراده؛ فإن فسَّره بشيء عُمل به".

 

فالهيتمي يوضح خطأ تكفير طائفة ابن عربي من وجوه: أولاً: أنها تقوم على غير مستند، وثانيًا: أنها تخالف الإجماع الذي قام على أنه لا تكفير بغير يقين ولذلك فإن تكفير طائفة ابن عربي هي خلطٌ بين أمرين: تكفير ابن عربي وهو محل خلاف، وتكفير من لم يكفره وهو أيضًا غير متيقن؛ لأن الحكم الأصلي لم يُسلَّم فكيف نقيس عليه؟!. وثالثًا: أن اللفظ المحتمل للكفر المرجع فيه إلى الشخص نفسه لا إلى المفتي، أما الحكم على الناس بمجرد الظن والهوى فهو نوعٌ من الاستبداد واغتيال الخصوم السياسيين!.

  

3- التكفير يقع على ثلاثة أنحاء: بالاعتقاد، أو القول، أو الفعل. ولكن الأصل أن الإيمان والكفر محله القلب؛ لأن القلب هو محل المعرفة والكسب ومصدر الأفعال، ولكن لما كان باطنيًّا صار النقاش إلى تجلياته الظاهرة وهي الأقوال أو الأفعال. ولكن في الأقوال والأفعال تفصيلات وخلافات حول ما يعبر عن الاعتقاد الداخلي صراحةً وما يحتمل احتمالات عدة فلا يكفي لمجرد الحكم بأنه معبّر عن الاعتقاد، بل لا بد من استيضاح من الفاعل أو القائل حتى يُنظر فيه.

 

4- ثمة تفريق بين تكفير المعين وتكفير المطلق أو تكفير الأقوال والأفعال. فتكفير المطلق مثل قولنا: كلُّ من استحلّ الخمر يَكفر، وهذا يختلف اختلافًا كبيرًا عن تكفير فلان بعينه. لماذا؟ لأن بين تكفير القول أو الفعل وتكفير الشخص مسافةً كبيرة توجبها الاحتمالات التي تطرأ على شخص معين في فعل أو قول، فقد يرتكب فعلاً أو قولاً مكفِّرًا في الأصل، ولكنه لا يقصد به الكفرَ في حالته، كالسجود للصنم مثلاً، فليس كلُّ سجود أمام الصنم يُعتبر كفرًا، فالسجود المكفِّر هو السجود لأجل الصنم، وهذا في أحكام الدنيا لا الآخرة؛ لأنه يحتمل احتمالات؛ فقد يسجد (عند الصنم) لا (له)، وقد يسجد خوفًا؛ تحاشيًا لشيء يحاذره، أو مُكرهًا، حتى قال الإمام أبو محمد الجويني (والد إمام الحرمين): إنه لا يَكفر في أحكام الدنيا حتى يتم التأكد منه. وقد كان الإمام العز بن عبد السلام يستشكل الفرق بين السجود للصنم وبين ما لو سجد الولدُ لوالده على جهة التعظيم حيث لا يكفر، والسجود للوالد كما يُقصد به التقرب إلى الله تعالى كذلك يُقصد بالسجود للصنم. وقد نقل عنه ذلك تلميذه الإمام القرافي فقال: كان الشيخ يستشكل هذا المقام ويعظم الإشكال فيه. قال ابن حجر الهيتمي: "ونقل هذا الإشكالَ الزركشيُّ وغيره، ولم يجيبوا عنه، ويمكن أن يجاب عنه بأن الوالد وردت الشريعة بتعظيمه، بل ورد شرع غيرنا بالسجود للوالد، وأجابوا عنه بأنه كان شرعًا لمن قبلنا، فهذا الجنس قد ثبت للوالد ولو في زمن من الأزمان أو شريعة من الشرائع، فكان شبهةً دارئة للكفر عن فاعله؛ بخلاف السجود لنحو الصنم أو الشمس؛ فإنه لم يَرد هو ولا ما شابهه في التعظيم في شريعة من الشرائع، فلم يكن لفاعل ذلك شبهةٌ لا ضعيفة ولا قوية فكان كافراً، ولا نظر لقصده التقرب فيما لم تَرد الشريعة بتعظيمه؛ بخلاف من وردت بتعظيمه، فاندفع الإشكال واتضح الجواب عنه كما لا يخفى".

 

التكفير لا يقع من آحاد الناس ولا من الوعاظ والفسابكة ممن لم يستوفِ العلم اللازم، وإنما الذي يحكم بوقوع الكفر هم العلماء والقضاة

فتأمل هذا النقاش الطويل في مسألة كالسجود للصنم من أئمة كبار، وكيف أن إمامًا كالعز استشكل مثل هذا، في حين أن واعظًا متهورًا ليس لديه زاد علمي يكفر كلّ من هبّ ودبّ!. فالعلماء يفرقون هنا بين: الفعل المتمحض والفعل غير المتمحض، بمعنى: هل الفعل بمجرده كاف لأن يقوم مقام الاعتقاد القلبي أم لا؟ هنا يدور النقاش وقد يختلفون فيما يتمحض وما لا يتمحض، فالمتمحض كإلقاء المصحف في القاذورات؛ عالمًا أنه مصحف، أو السجود للشمس. ولذلك نقل ابن حجر الهيتمي عن الإيجي الشريف الجرجاني: أن "مَن صدّق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك سجد للشمس كان غير مؤمن بالإجماع؛ لأن سجوده لها يدل – بظاهره – على أنه ليس بمصدق ونحن نحكم بالظاهر، فلذلك حكمنا بعدم إيمانه؛ لا لأن عدم السجود لغير الله تعالى داخلٌ في حقيقة الإيمان حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية، بل سجد لها وقلبُه مطمئن بالتصديق لم يُحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى، وإن أُجري عليه حكم الكافر في الظاهر". فتأمل هنا كيف اعتبروا أن السجود للشمس بمجرده تعظيم لها وخروج عن حقيقة الإيمان، وأن الساجد في هذه الحالة كافر في الدنيا فقط، ولا يُحكم بكفره في الآخرة. فتأمل هذا واسترواح الوعاظ والفسابكة إلى التقول على الله وكأنهم موكلون بأبواب الجنة والنار!

 

تكفير الشخص المعيّن وموجباته

والآن لنتجاوز عن كل ما سبق من محددات وضوابط في زحمة النقاش حول كفر فلان أو علان من الرؤساء وغيرهم، ولنفترض أن من يلجأ إلى التكفير من الوعاظ والفسابكة يدرك ذلك كله، فإن سلّمنا له بالتكفير – على حكم التنزل الجدلي – فلا بد في تنزيل التكفير على شخص معين من وجود ثلاثة أمور:

1- موجِب للتكفير مع مراعاة الضوابط السابقة في التمحض.
2- حاكم يحكم بأن فلانًا كافرٌ؛ لأنه منوط به الاستتابة بعد سؤاله عن معتقده ومراده، أما المفتي فلا يحكم بالكفر إلا باليقين القائم مقام الاستتابة وهو ما قلنا إنه الفعل أو القول الصريح الذي لا يحتمل معنى آخر.
3- وجود جهة تنفذ الآثار التي تنبني على الحكم بكفر فلان إن ثبت كفره؛ لأن الكفر العارض يستلزم لوازم قانونية واجتماعية ودينية (ميراث، وزواج، …).

 

ففيما يخص (موجب التكفير) فإن أي تكفير يستلزم ما يوجب الحكمَ به؛ إذ إن الإيمان إذا ثبت بيقين فلا يزول بالشك أو الاحتمال، فلا بد من قول، أو فعل، أو اعتقاد ينقض الاعتقاد السابق ويُخرج صاحبه منه إلى نقيضه. والاعتقاد – كما قلنا – باطني، فلا بد له من معبِّر عنه تعبيرًا جازمًا لا يحتمل غيرَه، ومجددًا ليس لنا الحكم عليه بالظن والتخمين، وطرق التعبير عن الكفر ثلاثة: الدلالة اللغوية القاطعة، والفعل الصريح الذي لا يحتمل غيره، ولازم القول؛ أي ما ينبني على القول أو الفعل لزومًا، ولكن هذا اللزوم يجب أن يكون من عالم به؛ فقد نُلزم شخصًا بما لا يَلزمه أو لا يُلزم نفسَه به. أما ما يخص الحاكم بالكفر فإنه يتصل أيضًا بتنفيذ آثار الحكم بالكفر كذلك. فالحاصل أن التكفير لا يقع من آحاد الناس ولا من الوعاظ والفسابكة ممن لم يستوفِ العلم اللازم، وإنما الذي يحكم بوقوع الكفر هم العلماء والقضاة؛ إذ لا بد من التفريق في الحكم بالكفر بين مستويين: مستوى دياني، ومستوى قضائي.

  

فالمستوى الدياني موكول إلى العلماء، وهم يترفعون عن الحكم بكفر شخص معين؛ مخافة الخطأ في تكفير من لا يَلزم تكفيره ممن لم يستوف شروط التكفير ولم تنتف عنه موانعه، فقد يقع الكفر ولا يستلزم التكفير؛ لاختلالٍ في شروط التكفير أو لعدم انتفاء موانعه. ولذلك قال الإمام الغزالي: "والذي ينبغي أن يميل المحصّل إليه الاحترازُ من التكفير؛ ما وجد إليه سبيلاً. فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله: خطأٌ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهونُ من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم". وقال الإمام ابن تيمية: "ليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط؛ حتى تقام عليه الحجة وتَبين له المحجة، ومن يثبت إسلامه بيقين لم يَزل ذلك عنه بالشك. بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".

 

والآن لنفترض أن بعض العلماء حكم بكفر شخص معين وخالفه آخرون في الحكم بكفره، فهذا التكفير لا يُلزم الآخرين الذين لم يكفّروا، ولا يصح له إلزامهم باجتهاده، ولكن يَلزم كلَّ مجتهد التصرفُ وفق اجتهاده في المسائل الدينية (الدعاء له، الصلاة عليه، التعزية فيه)، ولكن لا يترتب على اجتهاد عالم ما قام بالتكفير أيُّ آثار قانونية (العقوبة، الحقوق والمعاملات). أما المستوى القضائي في التكفير فهو الذي يترتب عليه آثار قانونية مُلزمة تجري في نظام القضاء مما يتصل بالعقوبات والحقوق وباقي المعاملات.

 

لا بد من التمييز في التكفير أيضًا بين مستويين: الأحكام الدنيوية والأحكام الأخروية، فالحكم بالكفر إنما هو حكم بحسب الظاهر وفيما يبدو لنا، لا في حقيقة الأمر عند الله تعالى

ولكن لنفترض أنه صدر حكم قضائي بكفر فلان ورأى عالمٌ ما أن هذا الحكم (بحيثياته) غير سليم من الناحية الدينية، فإن الحكم القضائي هنا لا يمنع من إيقاع الأحكام الدينية كالدعاء له والصلاة عليه إن كان يعتقد أن كفره العارض لم يَثبت ديانةً، وإن كانت الآثار القانونية لحكم القاضي ملزمةً، أي أن الآثار المترتبة على التكفير بعضها (القضائي) مُلزم، وبعضها (الاجتهادي) غير مُلزم.

 

فالميل إلى التكفير وخصوصًا في سياق الصراعات السياسية كما في حالة السيسي والسبسي ومرسي هو ميلٌ إلى منزع المنتسبين إلى الجهاد من أبناء القاعدة وداعش وغيرهم ممن يُديرون مسائل الإيمان والكفر على مجرد "الحكم بغير ما أنزل الله" وفق اعتقادهم هم، ومجرد الحكم بغير ما أنزل الله ليس مكفِّرًا صريحًا، وفيه تفصيل أوضحته مطولاً في فصل خاص في كتابي "العنف المستباح"، فهؤلاء يخلطون بين مسائل سياسية صراعية ومسائل عقدية وأخرى فقهية، كما أنهم يستروحون إلى تكفير الخصوم؛ بمجرد الهوى الحزبي كما في حالة السبسي مثلاً، رغم أن مجرد الدعوة إلى الالتزام بالدستور أو المساواة في الميراث لا تستوجب الكفر، فهذه تركيا تطبق قانون المساواة بين الجنسين في الميراث منذ عقود ولم يكفر هؤلاء أردوغان الذي يحتكم إلى الدستور، ثم إن السبسي مثلاً حين يلتزم بالدستور وما ينص عليه من المساواة بين المواطنين، وحين يلتزم بتوصيات "لجنة الحريات الفردية والمساواة" صاحبة التوصية نفسها فإن التكفير هنا لن يقتصر على السبسي وحده، خصوصًا إذا فهمنا آلية عمل الدولة وأن الرئيس نفسه لا يستطيع تمرير أي قانون من دون موافقة البرلمان، وحينها أولى بهؤلاء أن يكفروا العملية البرلمانية كلها وكلَّ من شارك فيها بمن فيهم حركة النهضة الإسلامية حتى ينسجموا مع أنفسهم وهذا ما تقول به القاعدة وداعش وغيرهما!.

 

إن الآفة المركزية هنا ذات شقين: الأول: ضعف التكوين العلمي لدى الحركات الإسلامية وأتباعها ووعاظها، والذي يبدو أنه تكويني أصيل؛ إذ إن الشكوى من ضعف التحصيل العلمي بين أتباع الإخوان على سبيل المثال صدرت من حسن البنا نفسه وتكررت باستمرار من الحريصين عليها ومن أبنائها ومنهم الشيخ يوسف القرضاوي رغم تباعد الزمن بين الشيخين. الشق الثاني: هو النزوع نحو الوصاية ومحاولة ادعاء مرجعيتهم هم للشأن الديني مع ضعفهم العلمي وخلطهم للصراعات السياسية بالمسائل العلمية. فالمكفّرون لا يكتفون بالتكفير بلا علم فقط؛ بل يريدون إلزام الآخرين بتكفيرهم هم لأشخاص بعينهم يتصارعون معهم على الحكم، بل يَسرح بهم الوهم إلى محاولة إلزام الآخرين بتحديد مَن يُعزّى فيه ومن لا يعزّى فيه؛ لأنهم تجاوزوا التكفير إلى الحكم بالجنة والرحمة لأتباعهم، والنار والعذاب الأخروي لخصومهم!

  

وهنا لا بد من التمييز في التكفير أيضًا بين مستويين: الأحكام الدنيوية والأحكام الأخروية، فالحكم بالكفر إنما هو حكم بحسب الظاهر وفيما يبدو لنا، لا في حقيقة الأمر عند الله تعالى. ومن هنا ناقش العلماء مسألة مهمة وهي: هل الحكم على الكافر الأصلي يستلزم دخول النار؟ قولان للعلماء، بعضهم قال: إنه يسلتزم النار وبعضهم قال: لا يسلتزم. فإذا كان هذا في الكافر الأصلي فما بالك بالتكفير؛ إن وقع من أهله في محله، لا من وعاظ وفسابكة اليوم والله المستعان!

 

ثم إن الواعظ المتهور مطالب بتوضيح مسألة: هل يجب قتل كل من كفّرهم هو باجتهاده القاصر أم لا بد من إقامة الحجة عليهم أولاً؟ فإذا كان يجب قتلهم فليتفضل ويصرح بهذا ما دام يَزعم الغيرة على دين الله، رغم أن هذا القول يُلزمه بقتل كل من سمع "تسلم الأيادي"، وإن قال: لا يجب قتلهم، فالسؤال: على أي أساس يفرّق بين صيانة دمائهم من جهة، وحرمة الصلاة والدعاء والتعزية فيهم من جهة أخرى؛ علمًا بأنه ممن يعتقدون بأن المرتد حكمه القتل؟!

 

أرجو أن يكون هذا المقال كافيًا لبيان الموقف العلمي من التكفير وفضح العبث بالدين وأحكامه ممن يزعمون الغيرة عليه لأهواء سياسية، والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.