شعار قسم مدونات

هل لا يزال الحب ممكنا؟

blogs - love

ما الحب؟ بهذا السؤال نمس موضوعا صعب المنال ولأنه كذلك فإن البحث عن تحديد له يبدو من الصعوبة بحيث قد يعجز العقل عن إدراك معناه. فالحب جلّت معانيه عن أن تدرك وتفهم فهو ملغز محاط بالأسرار والرموز التي يصعب فكها وفهمها مهما حاولنا واجتهدنا.

 

إن أول قصة حب شهدتها البشرية كانت قبل بداية التاريخ في الجنة حيث كان أدم يعيش هناك وحيدا في فضاء مترامي الأطراف حتى مل فنام. إن لحظة اليقظة التالية ستسجل من خلال نظرة أدم نحو مخلوق بديع وجميل ورائع أول نظرة حب في الوجود الإنساني. إنها لحظة التقاء عين الحب لأدم مع عين الشوق لحواء ليسجلا معا بداية حب روحي خالص لن يدنس صفاءه الروحي إلا حين يأكلا من الشجرة المحرمة فحينها فقط بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا.

 

لقد كان حب أدم وحواء قبل أكل الشجرة المحرمة حبا روحيّا خالصا لا يرى فيه كل واحد منهما إلا صفاء روح الأخر وجمال تلك الروح وطهارتها وكان ميلا نقيّا من كل رغبة. وكانت كل نظرة أو لمسة فيه تخاطب الروح ولا تعير اهتماما للجسد رغم أنهما عاريان تماما ولكن العري لم يكن يعنى شيئا في حضور الحب الكامل الصافي الحاصل بينهما.

 

التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم مع نهاية القرن العشرين وسيادة قيم العولمة في العصر الراهن قد أدخلت الحب النسيان بما هو ميل روحي خالد وكرست الحب كنظرة رغبة جامحة نحو جسد المرأة

إن أكل الشجرة المحرمة يمثل لحظة فارقة في تطور الحب من الروح إلى الجسد فحين أكلا معا تلك الشجرة أدرك لحظتها أنهما عاريان وأن لهما "سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ" طه 121/122. فالعري ليس أصلا في الحضور بينهما ولا أصلا في الميل بينهما ولذلك أول أمر قاما به هو الستر حتى يحافظا على الصفاء الأول لنظرة الحب الأولى ولكن الله خلق أدم وحواء ليعمرا الأرض وعمارة الأرض تتطلب أن يكونا بينهما علاقة حميمية غايتها ضمان استمرار النوع بحكم الطبيعة الفانية للإنسان فالتناسل هو وسيلة خلود الإنسان إلى حين. فالرغبة إذن مكملة للحب وليست أصلا فيه والحب الحقيقي يبدأ روحيا أولا ثم ينتقل للرغبة فيما بعد لأنها الضامن لاستمرار النوع ولأنها تلبية لحاجة طبيعية في الإنسان لم يكن يدركها قبل أكله للشجرة المحرمة. أما أن تكون الرغبة سابقة للحب فإن ذلك ليس حبّا بل شهوة عابرة تنتهي حين تلبيتها.

 

فالرغبة آنية والحب دائم والرغبة فانية والحب خالد. فإذا كان تعلقك بمن تحب تعلق رغبة فمتى قضيت رغبتك انتهت محبتك ولكن متى كان ميلك إليه ميل حب لا رغبة دامت حاجتك إليه وإن انقضت رغبتك فيه. لأن الجامع بينكما أكبر من مجرد رغبة عابرة لجسد فان. إن تجربة أدم تكشف أن الإنسان ومهما كانت الخيرات المادية لا تمثل شيئا أمام الخيرات الروحية والنفسية فأدم كان يعيش حياة كاملة ماديّا في الجنة فلم يكن ينقصه شيء ولم تكن له رغبة غير قابلة للتحقق تحققا فعليّا ولكن كل ذلك لم يحقق له السعادة المطلوبة والرضا التام عن النفس بل إن أدم ومع مرور الوقت أدرك أن هناك نقصا ما في كمال ذاته وتحققها وهذا النقص تحقق بخلق حواء.

 

لقد مثلت لحظة الحب بالنسبة لأدم لحظة تحقق كمال الذات بحضور الغير فبالغير تكتمل الذات وتحقق وجودها الفعلي والفاعل. لقد تغيرت حياة أدم تماما بعد الحب وأصبحت أكثر سعادة وأصبح أكثر انسجاما مع ذاته بل وصل الأمر بآدم أنه وانتصارا للحب قد أكل من الشجرة المحرمة مع إدراكه للمنع الإلهي فقط لأن حواء هي من أهدتها له. والله لم ينظر لفعل أدم كخطيئة مثلما نظر لرفض إبليس السجود لأدم لأن الدافع للفعل لدى أدم كان الحب في حين كان دافع إبليس الغرور والنرجسية والحقد والعنصرية وشتان بين الدافعين ولذلك ألهم الله أدم كلمات فتاب عليه وغفر له وأسكنه الأرض هو وحواء في حين لعن إبليس إلى الأبد، فلقد اختار أدم بإرادته الحرة حياة الضنك مع الحب على حياة الترف بدونه ففي النهاية الراحة النفسية والروحية أهم بكثير من كل الخيرات المادية في الجنة. لقد أثبتت تجربة آدم أن السعادة الحقيقية للإنسان تنبع من القلب أولا وأخيرا وأن تعلق الناس بالخيرات المادية لن يحقق لهم إلا سعادة وهمية.

 

لكن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم مع نهاية القرن العشرين وسيادة قيم العولمة في العصر الراهن قد أدخلت الحب النسيان بما هو ميل روحي خالد وكرست الحب كنظرة رغبة جامحة نحو جسد المرأة لا روحها وكأنها ليست ذات كيان إنساني فالنزعة الاستهلاكية التي تسود عالم اليوم قد بضعت كل شيء بما في ذلك المشاعر الإنسانية حتى أصبح مقياس النجاح فيها يقاس بما نملك لا بما نحن. فلم يعد أحد ينظر لذاتك وإنسانيتك بل ينظر لجيبك. فتحولت المرأة إلى مجرد جسد مرغوب فيه إلى حين وتحول الرجل إلى مجرد مصرف. فمتى ترهل الجسد ترهل الحب ومتى أفلس المصرف أفلس الحب.

 

إن قيم العولمة قد دمرت الحب وحولته لمجرد رغبة جامحة آنية لحظية تنتهي حين تبدأ وأصبح الشاب اليوم لا يعلن حبه في أذن الفتاة بل في شفتيها فهي بالنسبة إليه ولتربيته الاجتماعية مجرد وعاء لتلبية الرغبة لا أكثر ولا أقل ولذلك حين ينتهي غالبا من تحقيق رغبته يبحث عن غيرها ويتنكر لها بل يذهب الأمر حد وسمها اجتماعيا بالفساد والعهر. فالمجتمعات الشرقية تعهر المرأة دون الرجل بل في الأغلب تشرع للرجل ما يقوم به باعتباره رجلا وهذا تمييز اجتماعي على أساس الجنس تضطهد باسمه المرأة بل وتقتل أيضا بداعي الشرف وكأن الرجل ليس مسؤولا معها.

 

الحب في حقيقته علاقة ميل روحي خالص دائم وأبدي يجعل المحب غير قادر عن الانفصال عن المحبوب إلى الأبد حتى وإن لم يجمعهم مكان واحد وتجعل من تلبية الرغبة بدافع الحب لا بدافع الشهوة

إن العولمة أفسدت الإنسان وأفقدته أهم ما فيه وهي إنسانيته وحولته لحيوان استهلاكي توجهه رغبته في كل أمر حتى سادت التفاهة في عصرنا وأصبح التافهين سادة العالم. إن التافهين هم من حول الحب إلى مجرد رغبة جنسية آنية وأفقدوه حقيقته كميل روحاني خالص دائم تكمله الرغبة لضمان البقاء لا أن تكون هي الأصل فيه ولعل الكم الهائل من البرامج التلفزيونية التي تشيد بالحب كرغبة وتكرس النظر للمرأة كجسد وكوعاء لتلبية رغبة الرجل بل تكرس النظرة الدونية والاحتقارية للمرأة وتقدم صورة سلبية ومشوهة عنها حتى أصبح كل مشاهد من خارج ذلك المجتمع يظن كل نساء ذلك المجتمع عاهرات.

 

لقد شوه بارونات الإعلام والإنتاج السينمائي والتلفزيوني كل الصور الإيجابية للمرأة العربية وحولوها عبر صور نمطية إلى مجرد كائن بلا قيم ولا مبادئ همه الوحيد تلبية رغبته وملأ جيبه دون اعتبار لأي قيم أخلاقية أو إنسانية. لقد قتل هؤلاء التافهين الحب الحقيقي والصادق والإنساني في مجتمعاتنا، ومن المؤسف أن مثل هذه التفاهات تجد صدى لدى جمهور واسع من الأمة رجالا ونساء وشباب وحتى الأطفال مما يهدد باستمرار عصر التفاهة لأجيال قادمة وفي الوقت الذي بدأت المجتمعات الغربية تعيد النظر في الحب باعتباره إنساني قبل أن يكون حيواني يحاول الكثير من التافهين في مجتمعنا تكريس الحب الحيواني دفاعا عن مصالحهم المادية ومكاسبهم التجارية ولو على حساب قيم الأمة الجوهرية.

 

لقد كان الحب في الحضارة العربية والإسلامية حبا صافيّا خالصا طاهرا أبديّا وأزليّا بأزلية الروح ودوامها فالروحانية في الحب كانت مقدمة على الشهوانية لأنها من يبقى حين تزول كل الشهوات. لقد أدرك العرب قديما أن دوام كينونة الإنسان إنما يكون عبر تنمية أبعاده الروحية والإنسانية لا عبر تنزيل شهواته منزلة لا تستحقها. وهذا لا يعنى بتاتا أنهم لم يعطوا الأهمية المستحقة للشهوة في حياة الإنسان بل نجد عشرات الكتب الفقهية والأدبية التي تنظم ممارسة الشهوة ولكنها في الأغلب تؤكد أن الأصل في علاقة الحب هو الميل الروحي بين الرجل والمرأة.

 

إن الحب في حقيقته علاقة ميل روحي خالص دائم وأبدي يجعل المحب غير قادر عن الانفصال عن المحبوب إلى الأبد حتى وإن لم يجمعهم مكان واحد وتجعل من تلبية الرغبة بدافع الحب لا بدافع الشهوة فتصبح الرغبة متسمة بالسمو والتعالي والرفعة لأنها بين ذوات إنسانية لا كائنات حيوانية، إن المحب الذي يدرك جوهر الحب ينظر للمرأة كذات إنسانية كاملة الإنسانية ومكملة لذاته كنصف ثان فاعل ذو إرادة إنسانية منتجة ومبدعة حيث يقيمان معا مشروع الإنسان الكامل بقيمه الإنسانية والأخلاقية ويبنيان معا مجتمعا متوازنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.