شعار قسم مدونات

الوفاء للأقوياء فقط… والرحيل بسبب الغياب حُجّة الضعيف!

blogs الحب في الكبر

اقتبست هذا العنوان من نص "رائحة المكان" للكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز، واخترته مدخلا للموضوع الذي سأعالجه في هذه المقالة من وجهة نظري، ولعلني أوافق الكاتب الرأي، في مسألة أن الوفاء سلوك وممارسة يتميز به الأقوياء، وما أصعب أن يكون المرء قويا بناء على هذا الطرح! بكل حرص نتحدث عن الوفاء، لكن بكل خيبة لا نستطيع أن نحققه، وأن نمارسه في حياتنا، فليس هينا أن نظل أوفياء، كما ليس صعبا أن ندرب أنفسنا على ذلك.

 

وقبل ذلك، ليس سهلا أن نختار الأشخاص الذين سنقدر على ممارسة الوفاء معهم بكل اقتناع، إذ في البدايات تظهر مدى قدرة المرء على الاستمرار في الوفاء، لكن هيهات على خيبات الظروف، وهيهات على المشاعر الإنسانية التي تلتزم بالوفاء، هكذا يتضح أن مهمة الوفاء أعقد مما نتمنى، فبقدر ما يتشابك الوفاء مع المشاعر الإنسانية، بقدر ما تصعب ممارسته على المدى البعيد، كما أن الملل الذي ينتهك حرمة العلاقات يضع إشكالية الوفاء بين قوسين، ويعجل بنهايتها خصوصا عندما لا يقدر الطرفان على تحمل عبث العلاقة في أشد اللحظات يأسا. وبقدر ما تبدو كلمة الوفاء جميلة، بقدر ما يكون الاتصاف به صعبا، فلطالما كانت الأشياء الجميلة بعيدة عن متناولنا.

 

الوفاء في الأصل ينطلق من الذات، فكلما كان المرء وفيا لذاته ولشخصيته التي صنعها بنفسه، وخان الشخصية التي يدفعونه إليها، فهذه الخيانة بمثابة وفاء، وما أحوجنا لنكون كما نريد أن نكون!

أن يكون المرء وفيا، فذلك يحتاج إلى شخصية قوية، تدرك بوضوح طبيعة اختياراتها، وتكون مسؤولة بحزم عن قرارتها، فالوفاء للاختيار والقرار يتطلب أن يقتنع المرء تماما بهما، وهذا الاقتناع هو الذي يبعد عنه كل السلبيات التي من شأنها أن تعكر صفو وفائه، وبذلك يمكن أن يظل وفيا لشريكته، خصوصا إذا اقتنع بها، وسيظل وفيا لأصدقائه إذا كان مقتنعا بهم، وحتى الوفاء للأقرباء يدخل في هذا الصدد، وما أصعب هذا النوع من الوفاء! فالوفاء للأم كان طبيعيا أن ينمو ويكبر، لكننا بقدر ما نكبر، بقدر ما نتورط في الغياب، لا نكترث للأم كما ينبغي، اللهم بعض الاهتمام، وكلما كبرنا كلما قل اهتمامنا بها، وكم كان جميلا أن نظل أوفياء للأم، لكن لعبة الظروف تلعب لعبتها بالطريقة التي لا نشتهي، فنضطر مجبرين إلى خيانة علاقاتنا بمن يدخلون إلى لائحة حياتنا، في الوقت الذي يبادلوننا هم نفس الخيانة، إلى أن تصير العلاقات كما لو لم تكن، ويا ليتها لم تكن!

 

تتعدد خيباتنا عندما نتحدث عن الوفاء، وتكثر إخفاقاتنا كلما حاولنا أن نبني الوفاء، فالحديث عن الوفاء يدفعنا لنتأكد من عدم قدرتنا عليه، وتجاربنا مع الوفاء طالما كانت مدتها أقصر مما كنا نشتهي، وننهار أمام صعوبة مهمة الوفاء، وهكذا نخفق بكل إرادة في هذا الاختبار، ذلك أننا من يختار الوفاء بإرادتنا، ونختار من سنظل أوفياء لهم، لكننا لا نختار في ظل شروط يمكن أن تدفعنا للاقتناع بمن نختار، والغالب أننا نختار عبثا، ونفسر الأمر صدفة، حينها نجبر أنفسنا على هذا الاختيار، والحقيقة أننا نصير مدفوعين على تحمل العبث الذي تورطنا فيه، نتحمله دون اقتناع، وبما أننا لا نكون مقتنعين باختياراتنا، فإننا نؤجل موعدنا مع الوفاء، لأن هذا الأخير لا يكون إلا لمن نقتنع بهم، أما من نجد أنفسنا مجبرين عليهم، فلا محل للوفاء في هذا الباب، كما لا يمكننا أن نبني الوفاء، لأنه لا يُبنى، نظرا لارتباطه بأعماقنا، تلك الأعماق التي تدفعنا للاقتناع باختياراتنا.

 

الوفاء في الأصل ينطلق من الذات، فكلما كان المرء وفيا لذاته ولشخصيته التي صنعها بنفسه، وخان الشخصية التي يدفعونه إليها، فهذه الخيانة بمثابة وفاء، وما أحوجنا لنكون كما نريد أن نكون! فأن نكون أوفياء لما حددنا أن نكون عليه، فهذا يستدعي مجددا أن نقتنع بمبادئنا، ومن هنا فأولى شروط الوفاء تتأسس بالاقتناع، وعندما نقتنع باختياراتنا سواء تعلق الأمر بشخصياتنا أو علاقاتنا، عندما نقتنع فغالبا سنكون أوفياء لذواتنا وعلاقاتنا، أما إذا كان العكس، فإن الوفاء لن يساير ما نحن بصدده، لأن الممل قد يحاصرنا، وقد لا نتحمل أكثر مما نستطيع، ولهذا السبب نخون الشخصية التي أرادونا أن نكون عليها، لأننا لم نقتنع بها، فكان طبيعيا أن نلاحظ بأن الأمور التي يربوننا عليها لا نأتيها، وإذا كان هذا بمثابة خيانة، فإن الواضح أنه لو اقتنعنا بما أرادونا أن نكون عليه، فحتما سيكون الوفاء حليفنا. ونفس الأمر في علاقاتنا، فكلما اقتنعنا بالأشخاص الذين قررنا بإرادتنا أن نكون معهم، فحتما سنكون أوفياء لوجودهم على نحو واسع وعلى المدى البعيد، أما إذا كان العكس، فإن المآل لا ينفك يصبح غيابا ونهاية.

 

إن الوفاء هو الذي يجعلنا نتلذذ بالعلاقات على طولها، ونشعر دائما بأننا في بداياتها، وبالوفاء نحافظ على أواصر العلاقة رغم الغياب الذي يتمكن منا بسبب الظروف. في ظل الغياب، نحاول أن نظل أوفياء لمن نكون معهم، تجنبا للتأثير السلبي للغياب على العلاقات الإنسانية، باعتباره قد يكون سببا في إنهائها، والحال كذلك، ولكن الغياب بمثابة فرصة لكي نختبر فيها وفاءنا للعلاقات التي نؤمن بها، والتي نكون مقتنعين بالتورط فيها، أما العلاقات التي لا تهمنا، فإن الغياب ليس سوى سبب مقنع لإنهائها. ولعل واقع الحال يقول بأننا في حاجة إلى الوفاء بشكل عام، الوفاء للمبادئ التي قررنا أن نؤمن بها، والوفاء للقضايا التي تشغلنا، والوفاء للعلاقات الإنسانية التي تستحق، وتتعدد الأمور التي تستلزم الوفاء، لكننا ومن سوء تصورنا للوفاء حصرنا الوفاء في العلاقات العاطفية، ومن خلالها نتأكد من افتقارنا لهذا السلوك الجميل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.