شعار قسم مدونات

موازينُ الحبّ.. رُفعت فقُدّرت تقديرًا

blogs الحب

خلق الله الحبَّ فجعل له موازين إن اختلّت انحرفت به عن معناه الحقيقي، وقدَّره منازل لنعلمَها فنبلُغها، وألبسه ثوب الحقّ ليكسو به قلوبَ عباده الصّادقين، وفصّل فيه من الحدود و"تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا"، وأنزله من السّماء بقدَرٍ ما يشاء، مثله مثل أيّ شيءٍ خلقه "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا"، هو شعورٌ مبهمٌ يخطف الألباب ويتغلغل في ذرات الوجدان دونما استئذان، تسيل القلوب بقدَرها، فجعل العليم لكل شَغَفٍ قدْرًا، يبسط من الوُجْد لمن يشاء فِيمَن يشاء ويقدِر، إن يقدُر مشتهىً أو منتهىً بأمره، وكان أمر الله قدَرًا مقدورًا "وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا".

 

وفي سياقِ هذا الشّعور الإنسانيّ العفيف، الذي هو أرقى وأنقى وأوقى وأبقى ما برأ الله، يروي لنا الإسلام قصة أَمَةٍ مملوكة تُدعى بريرة، ليضرب لنا بها مثلاً، فتبقى كأثرٍ يخلّد قصة الحرية، قصة الحب، قصة الإباء، قصة تُثبت في تفاصيلها روعة هذا الدين وسماحته، مُلخّصها أنّ بريرة أرادت أن تتحرر من رقّ العبودية، وأن تملك نفسها وتملك قرارها، وترفل بقدرتها الكاملة لعيشِ حياتها.

 

هي قصّة خلّدها الإسلام ليُثبت أنّه لا يخالف الحُب ولا يُحرِّمَه بصورة مطلقة، بل يُقدِّسه ويحترمه ويُثيب عليه إن كان حبًا صادقًا متصفًا بالصفات الشرعية التي دعت الشريعة الإسلامية إليها

وهكذا كان، فاشترت نفسها بالتقسيط المريح، تدفعه سنويًّا لمواليها، ولمّا بلغت مرادها وتنفّست عبير الحرية، وبدأت حياتها من جديد تأمّلت حالها فوجدت أنها زوجة لعبدٍ مملوك اسمه مُغيث، والإسلام هُنا يعطيها حريّة اتخاذ القرار، فلها أن تُبقي رباط الزوجيّة على حاله، ولها أن تنقضه وتحل الوثاق، فقررت أن تنهيه لأنها ما أحبّت زوجها، ولا حملت له في قلبها مودة ولا رحمة. وهُنا نُدرك أنّ الحبّ استحقاق!

 

وفي هذا يروي ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-، قال: ‏إنَّ زَوْجَ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏ ‏كَانَ عَبْدًا، يُقَالُ لَهُ ‏ ‏مُغِيثٌ. ‏كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏ ‏لِعبَّاسٍ: ‏ ‏يَا ‏‏عَبَّاسُ‏، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ ‏ ‏مُغِيثٍ ‏ ‏بَرِيرَةَ‏، ‏وَمِنْ بُغْضِ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏ ‏مُغِيثًا‏. ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏لبريرة: ‏لَوْ رَاجَعْتِهِ! قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.

 

هو ذا مغيثُ عبدٌ مكلومٌ يسير خلف بَرِيرَة التي كانت زوجته، ثم صارت أجنبيّة عنه، يسير خلفها ويبكي بكاءً حقيقيًّا، فلا يهمّهُ في حاله لومة لائمٍ، من فرطِ حزنه على فراقِ محبوبته تسيل دموعه أنهارًا على لحيته! حتى أثار هذا المنظر المؤثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ ‏ ‏مُغِيثٍ ‏ ‏بَرِيرَةَ، ‏وَمِنْ بُغْضِ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏ ‏مُغِيثًا". فلم يُعدّ هذا الفعل منه فعلاً منكرًا بعد أن صارت بريرة أجنبيّةً عن مغيث، ولم ينهره عن ذلك، لأنّه لا مسّها بسوءٍ، ولا تعرّض لها بأذى، بل وراح عليه الصّلاة والسّلام يشفعُ له عندها علّ قلبها يلين فترأف بقلبه.

 

هي قصةٌ مواسيةٌ قصيرةٌ؛ لأفئدةٍ مُجْهَدَةٍ كثيرةٍ، والسعيد من وُعِظَ بغيره، على قدَرٍ كان لقاؤهما، وبقدَرٍ كان حبّه لها، ومن قدَرٍ كان عهدهُما، ولقدَرٍ كان بلاؤه، وعن قدَرٍ جرى فراقُهما، وإلى قدَرٍ يصير مغيثُ عبدًا ذليلاً يكوي قلبه جمرُ الفراق كنارٍ لظى أو أشد! وليس لفؤاده سبيلٌ بعد مصابه إلا إفراغ الصبر، ذلك الذي ينهمر على القلوب فيربط عليها؛ هنالك يَحفظ إيمانه ويُحرَز التفويض ويُصان اليقين "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ".

 

هي قصّة خلّدها الإسلام ليُثبت أنّه لا يخالف الحُب ولا يُحرِّمَه بصورة مطلقة، بل يُقدِّسه ويحترمه ويُثيب عليه إن كان حبًا صادقًا متصفًا بالصفات الشرعية التي دعت الشريعة الإسلامية إليها، ومع ذلك لا يزالُ مهجورًا من عامة الإسلاميّين، فكان هجرهم له سببًا ليرتع في حماه بجاهليةٍ غير أهليه؛ فكلّ من استقام له فيه حرفٌ اعوجَّت منهم حروفٌ، وإذا شُفي بدواءٍ لهم قلبٌ أهلكتْ غيرَه حُتوفٌ. وقد تعدّدت صور الحُبّ في القصص القرآنيّ تنوعًا فريدًا؛ فجمعت فيه بين طيّاتها كلّ المتناقضات، متى يكون نافعًا ومتى يكون ضارًا، متى يكون مُعزًّا ومتى يكون مذلاًّ، فكان منها حبّ امرأة العزيز ليوسف الصدّيق، وحب إبراهيم لزوجتيه وأبنائه… وهكذا.

 

ويقول ابنُ الحزم في كتابه طوقُ الحمامة: "الحُب -أعزك الله- أوّله هزلٌ وآخره جدٌّ. دقّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تدركُ حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكرٍ في الديانة ولا بمحظورٍ في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل". إلاّ أنّ مُصيبة مُجتمعاتنا أنّها حين تُحبّ، تُحبّ بعد جوعٍ قلبيٍّ بليغٍ، وصبرٍ على الظمأ شديدٍ، فإذا ذاق المرء منّا، استلذّ فاغترف فأقبل فأسرف، يُسرف في بذل مشاعره، يُسرف في الإقبال، يُسرف في الرغبة، يُسرف في الطّلب، ويُسرف في الرجاء، فيكلف نفسهُ ما لا تطيق فيُفرط بلسان مقاله حينًا، وبلسان حاله أحيانًا، وهو هكذا الحب به ضرَّاء كما به سرَّاء، هو بلاءٌ في القلبِ خفيٌّ مكينٌ، يجعلُ الرّوح أسيرةً ليلاً، نازفةً نهارًا، يزيد شقاؤه إذا كان المرء خفيف الدين والعقل ولو ثقُل لكان خفيفًا لطيفًا. فمن ابتلي قلبه بشيءٍ من هذا؛ فليهرع لله علّه برحمته يعافيه، ولا يفرِّط في مشافي السماء على الأرض؛ تلك التي ميقاتها الأسحار، ومكانها السجود، لا يطفئ نارَها إلا ماء المُقَل يراق هناك.

 

والحقيقةُ أنّ للحُبّ موازين لا إفراط فيها ولا تفريط؛ له فقهٌ، فهو رزقٌ يشبه سائر الأرزاق في معانٍ، ويباينها في أخرى، والله هو مصدر الأرزاق يوزّعها على عباده كيفما يشاء، يقبضُ الرحمن ويبسط فيه لمن يشاء "نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم"، ومن شروط الرِّزق أن يكون نعمةً وأن يكون حلالاً طيّبًا؛ فمنّا من يكتسبه، ومنّا من يُلهَمه إلهامًا، لا يد لبشريّ فيه "لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ"، فكم من خيرٍ نشتهي بلوغه فنعجز، أما الله فبالغٌ أمرَه، غالبٌ عليه، يَنفذ أمرُه فيلج إلى أفئدةٍ فارغةٍ فيعمرها بمن يشاء.  ثمّ ما الحُب إلا ما صُنع على عين الودود، وأمّا غيره فإشباعٌ رغباتِ النّفس وأهوائها وميلٌ مع الهوى يُغلّفه الوهم لا أكثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.