شعار قسم مدونات

الجنَّة المهجورة.. من ينصرُ لغة الضاد؟

blogs اللغة العربية

خلق الله الناس، وأجرى فيهم سنته، فصاروا شعوبًا مختلفةً وقبائل متنوعة، ووهب كلًا منهم عطية مميزة، يُعرفون بها، ويجتمعون على حمايتها، وبنائها، ووهبنا -نحن العربَ- هبة جمعت بين طياتها الميزات كلها، حتى شابهت الجنة في كمالها، وتفردها، وكيف لا؟ وهي عطية الكامل، الواحد، الذي متى أعطى ووهب، كانت هبته، آية في النفع، والأثر، أدرك هذا الأولون من قومنا، فاعتنوا بعطية الله، واجتمعوا عليها، حتى غدوا كنفسٍ واحدة تسكن جسدًا واحدًا، من شدة الوحدة والاتحاد، إلا أننا -أحفاد العرب- قد عميت أبصارنا، وضلت أفهامنا، وضاقت آذاننا، عن تقدير أهمية هذه العطية -التي تشبه الجنة- حتى هجرها الغالب منّا، وكادت تفلت من أيدينا، وأي عاقلٍ هذا الذي يهجر جنة وهبه الله له؟ إلا إن كان مجنونًا، أصاب عقله الخبل، والضياع، أو كان موهومًا، ظن أن في غيرها الفلاح والنجاح.

لعل الأسئلة تدور في رأسك، استفهامًا، يتبع استفهاما، عن هذه العطية المهجورة، فلن أسير في بحر الاستدراج طويلًا، إنها اللغة العربية، جنة الله في أرضه، مهجة القلب الشهباء، ومسكن النفس التعبة، ولسان الذكر الحكيم، فيها يجري أصلنا، ومنها انسلخت هويتنا، وإليها يرجع كل فخر، واليوم هو يومها العالمي، اليوم الذي يتذكر فيه العالم كله، سيدة لغات الأرض، فيجلها، ويقدرها تعظيمًا واحترامًا، ولماذا لا؟ وهي التي كثرت كلماتها، وازدادت مرادفاتها حتى فاقت كل اللغات، تنوعًا، وبيانًا، وإعجازًا، لغة يتحدث بها أكثر من 421 مليون إنسان على هذا الكوكب، ورغم ذلك كله، فهي في وحشة بين أبنائها، واغتراب عن ألسنتهم، وحياتهم اليومية، فإلى أين وصل حال اللغة العربية؟ وهل ستنقرض حقًا؟ وما واجب كل واحد منا تجاهها، وهل بالمعاجم والمجامع اللغوية، والأوراق تتقدم العربية فقط؟ أم أن المفتاح بين يدينا؟

حال العربية
الذين يتحدثون عن انقراض العربية، وغيابها تمامًا من الأوساط الفكرية والتعليمية، لا يؤمنون بها، وهم على أغلب الظن، أعداء إن يريدون بذلك إلا أن يضعفوا عزيمة، كل من يسعى من أجل لغة الضاد، وإحيائها

كلما نظرت إلى حال العربية، هذه الأيام، ألمَّ بي الضيق، وأجهدني الحزن، والتشاؤم، ويزداد هذا كله، ويُضاعف مرات عديدة عندما ألتفت إلى أدبنا العربي، وما آلت إليه الحال فيه؛ ففي الأولى هُدِّم حرف الضاد، ودب الموات، والعطب في ثنايا اللغة، حتى أصبح من المستهجن أن يتحدث الإنسان بها، في المجالس المعتادة، فشيخٌ يستبدل اللفظة العربية بأخرى إنجليزية مشوهة، ليقول الناس أنه، حضاري، لا يعرف للرجعية والتأخر سبيل، ومتحدث في جمع عربي، يبربر ويترتر إنجليزية شوهاء، حتى يأخذ الناس بكلامه، ويُجمعون عليه، ونشاط طلابي يدعي إحياء الأمة جل من فيه، غلب عليهم الخبل والجنون؛ إذ يدعون أن إحياء الأمة سيكون بامتثال الإنجليزية بين الطلاب، وإنما مثلهم، كمن يقول إذا غابت عنكم الشمس، فاذهبوا وأحضروها.

حال الإنجليزية

والإنجليزية على الناحية الأخرى، في تقدم، وازدهار، تتوغل كل يوم في منطقة جديدة، وتحمل ألقابًا، وتُنعت بصفاتٍ ما كانت تليق بغير العربية، ولكن لأننا تأخرنا، وتقدمت مؤشرات الجهل، والتخلف فينا، بتنا في أقبح مكانة بين الأمم، نقلد الغرب تارة، فنجري ألسنتنا بلغتهم، ونهجر لغتنا، ونخلق -غير مدركين- من أنفسنا، مسخًا، لا هو إلى العربية انتسب، ولا هو من الإنجليزية في شيء، مهما اهتم أن يحبُك لهجته، وشخصيته، سيظل مسخًا، معروفًا بيننا وبينهم، وعلى أي حالٍ، سينتهي به الأمر إلى مجمع فاقدي الهوية، وعبيد التغريب، والحق أن ذلك ليس ضعفًا ولا قصورًا في العربية، فإن اللغة دائمًا ما كانت صورة القوم، إذا تقدموا، تقدمت، وإن أتوا بجديدٍ، كانت هي مولعة بهذا الجديد؛ تكاشفه للناس جميعًا، وتزدهر به، وإذا تأخروا، نزل بها الداء، فجمدت، وأصابها العطب.

يقول حافظ إبراهيم على لسان الجنة المهجورة:

رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدُّرُ كامِنٌ
فهل ساءلوا الغواصَ عَن صدفاتي

أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً
مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناةِ
وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّةً
فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين نُعاتي
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ
إلى لغةٍ لمْ تتّصل برواةِ
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي
فإمّا حَياةٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى وتُنبِتُ في تلك الرُّمُوسِ رُفاتي
وإمّا مَماتٌ لا قيامَةَ بَعدَهُ
مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ بمماتِ

أشباه الكُتَّاب

أما حال الأدب، فلا يخفى عن أحدٍ، ما وصل إليه، وإني لأتخيل أن جيل الطليعة الحديثة، كالرافعيّ وطه حسين، والعقاد، إذا خرجوا علينا، من قبورهم، فإنهم سيفضلون الرجوع إليها، على البقاء ساعة واحدة، في عصر باتت العامية فيه شعرًا، وأصبح عرجى اللُّغة كُتَّابًا، والواحد فيهم لا يعرف بعد، كيف يفرق بين استعارة تصريحية، وأخرى مكنية، حتى أن أشباه الكتاب ممن يلهثون خلف الشهرة، هيامًا، قد شغلوا الصفحات، لغة ركيكة، وأسلوبًا مشوهًا، لا هو بالمستقيم، المتعرج سهوًا، ولا هو بالمعلول، في بعضه، فنفهم منه، هدفًا، ونعرف عنه غايةً؛ فما أكثر أولئك الذين يسودون الورق ويعتبرون أنفسهم كتاب مقال "بالفطرة" كأن الواحد منهم كان يرضع من وحي القلم، ورسائل الأحزان، وإني لأعجب، أن ينعت أحدهم نفسه كاتبًا، وهو لا يعرف عن الكتابة، والتأليف إلا أنها إمساكٌ بالقلم، والجري به على ورقة بيضاء، أما عن الأسلوب، والملكة، والبلاغة، والبيان، والاقتداء بأوائل الكتاب، والقراءة لهم، حتى تقفل العين من شدة الجهد فلا يعرفون طريقًا.

أشباه القراء

وإن كانت تلك مصيبة من يكتب، فإنها ليست أقل من مصيبة من يقرأ، فإن القُرَّاء أمثال يحيى صلاح، قد هبطوا بالذوق العام، وأخلوا بمعيار كل مكتوب، جميل؛ فهم لا يعرفون عن التذوق، والمطالعة، والتفنيد شيئًا، ورغم ذلك يهللون، ويصنعون ضجيجًا، حول كل صغيرٍ، لا يُحسن من الكتابة أقلها جمالًا، وأصغرها فكرة، وموضوعًا، وكيف لهم ذلك، وأمثاله من القراء لا يعترفون إلا بالتناول، والتحضير، أما عن المطابقة والتعبير، وامتثال المرادفات، وسك العبارات، والجمل، ونظم الأفكار، ومسحة البيان، وشمس البلاغ، فإنهم مما لا يلتفتون له، وكأن الكتابة تحولت -في عقولهم الجدباء- إلى نظمٍ من المعلومات الجافة، الصلبة، التي لا تعرف عن روح الإبداع والأدب شيئًا، ومِن ثَمَّ فإننا في حاجة إلى الاهتمام بالذوق العام، وإثرائه، بالمؤلفات المنظومة بالعربية الفصحى، السليمة، التي تسمو بروح الإنسان، وتغرس حب العربية فيه.

انقراض العربية

إن الذين يتحدثون عن انقراض العربية، وغيابها تمامًا من الأوساط الفكرية والتعليمية، لا يؤمنون بها، وهم على أغلب الظن، أعداء إن يريدون بذلك إلا أن يضعفوا عزيمة، كل من يسعى من أجل لغة الضاد، وإحيائها، وإعمار ثناياها من جديد؛ فرُغم ما تمر به العربية، من ضيق، ومعاناة واغتراب، فإنها باقية، خالدة، ما دامت الأرض؛ وهي محفوظة بعناية الواحد الإلهية، جارية المعانٍ، وفيرة الألفاظ، مصونة بالقرآن الكريم، وما دام على الأرض أبناؤها المخلصين، فإن شمسها ما تزال مشرقة، تحيي، النفوس العربية، وتحمل راية الإسلام عالية.

الصحافة الإعلام

كان وجود العربية الفصحى، في وسائل التواصل الاجتماعية -بداية ظهورها- أمر مستحيل، يمثل تحديًا، حقيقيّا لها، بعيدًا عن الوسائل النمطية، كالجرائد والصحف، والتلفاز، حتى خرجت مشروعات عربية، خالصة تهتم بثقل المحتوى العربي، ونشره بين الناس، بلغة عربية سليمة، تترك في الناس أثرها، ومن أمثال ذلك، مدونات الجزيرة، التي كثيرًا ما تشبه مجلة الرسالة في أزهى عصورها، وموقع ميدان الذي يخرج تقارير مترجمة، وأبحاث، وموضوعات متنوعة بلغة عربية سليمة، إضافة إلى قصصٍ مرئية، شيقة، بصوت عربيٍ ندي، والجزيرة بلس عربي، التي تروي حكاية الإنسان، في لغة عربية واضحة، وقوية، ومعجم الدوحة التاريخي المنطلق حديثًا، فإن مثل هذه المشروعات، يعيد للعربية مجدها في وسائل التواصل، ويثقل مكانتها بشكل غير مباشر، حتى وإن لم يدرك أصحابها ذلك.

بأيدينا لا غير

إن حال اللغة العربية، لن يتقدم إلا بسواعدنا، نحن الذين نحبها، ونعشقها، فالمؤتمرات، والقاعات الممتلئة، بالأكاديميين والخبراء، ومجامع اللغة كافة، لن يغيروا من الواقع شيئًا، مهما وضعوا خططًا، ومهما رسموا أهدافًا، لأن المفتاح بين أيدينا؛ فاستخدامنا للغة العربية، في شتى دروب حياتنا، وتفضيلها على الإنجليزية، والعناية بها، والفخر بتحدثها، وزيادة القراءة والكتابة، والتعبير بالفصحى من حين إلى آخر، والاطلاع على المعاجم، وأمهات الكتب، يثبت فينا حبها، ويجعلها ركنًا، رئيسًا لا غنى عنه، فمتى يعود العربي إلى جنته التي وهبه الله إياها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.