شعار قسم مدونات

الفارقون قلة أعظمهم حليم.. سردية معمارية

blogs حليم

كنت ألهث بصوت مسموع وأنا أصعد تلال شمال مدينة بيركلي حادة الميول. كما أن لهاثي وعرقي كانا يتزايدا كلما فكرت في مقصدي الأخير من هذا الصعود المرهق. أخيرا توقفت أمام المنزل الفريد وطرقت الباب، لحظات سريعة ثم فتح لي مرحبا: أهلا علي، تفضل. نعم هو بلحمه ودمه الأستاذ العالم الفيلسوف كريستوفر ألكسندر أستاذ العمارة والعمران الأشهر بجامعة بيركلي في كاليفورنيا، ومؤلف الكتب الفارقة واهمها لغة الأنساق وإنتاج المساكن وتجربة أوريجون والطريقة الخالدة للبناء وغيرها من الكتب التي غيرت المفاهيم العالمية عن العمارة والعمران والبيئة المبنية كلها.

 

وقف بسيطا متواضعا يعد لي الشاي في مطبخ بيته الذي صممه بنفسه عاكسا كل أفكاره وخاصة التي أبدعها في كتاب لغة الأنساق. استدار وقال لي: إذن أن تحمل لي رسالة من حليم. قلت له نعم، أستاذي الدكتور عبد الحليم إبراهيم أستاذ العمارة والعمران في جامعة القاهرة هو معلمي ومنذ عرف انني متوجها للجامعة هنا في بيركلي وسأحضر دروسك، أرسل لك رسالة وهدايا لبناتك…تفضل. تحركت عيناه بسرعة على الرسالة بعد أن فتح المظروف ثم قال لي: هل تدركون قيمة حليم في مصر؟ حليم من أكثر من عمل معي عمقا وابداعا وإخلاصا وقد شاهدت مؤخرا مشروعه لحديقة الأطفال في منطقة تاريخية في القاهرة ولكنها فقيرة (يقصد حي السيدة زينب الذي بني فيه المشروع بجوار مسجد ابن طولون). أنه حقا مشروع مذهل. أرجو ان تعملوا معه بإخلاص. استمرت الجلسة الودية لقرابة ساعة ثم خرجت من بيته على وعد باللقاء في بداية الفصل الدراسي عندما يبدأ تدريسه لمقرره الملهم "طبيعة الانتظام في البيئة المبنية".

 

تأملني لبرهة ثم قال لي بنبرة حازمة: علي، لا تخن فنك أبدا، هل فهمت؟ نظرت إليه متوسلا مستفسرا. قال لي لا تجعل أي شيء أو أي ضغط يجعلك تتراجع عن فنك ومبادئك ومفاهيمك

في كل خطوة خطوتها عائدا إلى منزلي في جنوب المدينة، كنت أفكر في سعادتي وفخري بأنني تلميذ عبد الحليم الذي قيل عنه من قبل كريستوفر ألكسندر، كل هذا المديح. كنت أفكر في عظمة هذا الأستاذ الذي تجاوز منذ اللحظة الأولى التي وصل فيها إلى مصر بعد عشرة سنوات من الاقامة في أمريكا وعودته عام 1980، كل نماذج وقوالب الأستاذ الجامعي. لن أنسى ابدا عندما دخل قاعة المحاضرات عام 1981 ليعطي لنا محاضرة عن نتائج دورة جائزة الاغاخان للعمارة الإسلامية. فجأة وجدت أكاديمي يتحدث لغة أخرى غير اللغة البليدة التي استمعت اليها لقرابة عام. هذا رجل لا يتحدث عن المساقط الافقية والموديول المربعات أو المستطيلات. هذا الرجل معني بالعمارة من منطلق أنها عمل فكري فلسفي ركيزته الانسان والمجتمع. قام حليم في هذه المحاضرة بجولة على المشروعات الفائزة جعلتني أتحير وأتسأل هل هذه محاضرة عن مباني أم انها محاضرة في العلم والسياسة والفكر والابداع والمجتمع والإنسان والفن والجمال. ثم اكتشفت بمساعدته وعلى مدى سنوات مطولة بعد ذلك، أن هذا هو قلب العمارة وجوهرها.

  

بعد هذه المحاضرة بأيام توصلت لعنوان مكتب حليم وأنا طالب محدود في منتصف العام الثاني من دراسة العمارة وذهبت اليه. طرقت الباب ففتح لي بنفسه. كان وحيدا، واصطحبني إلى حجرة مكتبه البسيطة المتواضعة ولكن من اللحظة الأولى تشعر أن بها طاقة مختلفة، من أول الحصيرة المعلقة على الحائط والصور والكتب المتناثرة وأقلام الحبر والألوان والأوراق ثم الأباجورة المنخفضة التي تضيء الركن الأهم من طاولته التي يكتب عليها. قلت له أريد ان أكون معك. قال لي لا يوجد عندي عمل الآن. قلت له لا يهم، هل تقبلني حولك؟ هل تقبلني تلميذا خارج سياق الجامعة؟ ابتسم وقال تعرف تعمل شاي ثقيل؟ شربنا الشاي ومنذ هذه اللحظة وحتى الأن وعلى الرغم من سفري وبعدي عن مصر وبعدي عن حليم ولكنه مازال استاذي الفارق ومعلمي الملهم في العمارة والعمران والحياة.

   

كتبت سابقا عن حليم وقلت إنه المعماري الوحيد في مصر والعالم العربي الذي لا يوجد له عمل واحد يخجل منه. ببساطة لأنه معماري مقاوم ومبدع مناضل. كل مبنى من مبانيه هو تجسيد لرحلة إبداعية نضالية غيرت مفاهيم وصاغت أطر جديدة لحياة من يسكنوها أو يتفاعلون مع فضاءاتها. هذا معماري نادر أدرك أن الناس هم كل شيء، وهذا الإدراك غير نظرته الكاملة لعمله المهني والأكاديمي لأن دور العمارة الرئيس هو في التنمية المجتمعية والتعرف على العلاقات بين الانسان والمكان وليس البناء للصفوة أو البناء من أجل تمجيد النظم. من أول مشروعاته المبنية؛ حديقة الطفل في السيدة زينب ومشروعه لتنمية واحة الفرافرة ووصولا إلى مقر الجامعة الامريكية في القاهرة، لا يتبدى أمامك إلا كل الأدلة على ان كل هذه الاعمال ورائها إنسان يملك فهما فارقا وأيمانا جارفا وطاقة إبداعية نافذة وملهمة. تخيلوا معماري وعمراني يمارس المهنة لمدة أكثر من خمسين سنة ولا يوجد مبنى واحد يخجل منه ولا يوجد مقرر واحد درسه إلا وغير مفاهيم أجيال ولا يوجد مقال أو بحث كتبه إلا وألهم الألاف.

 

أول ما فعلت بعد عودتي من الدراسة في أمريكا وبعد زيارة عائلتي كان الاتصال به لترتيب موعد للقاء. ذهبت له في اليوم التالي. احتضنني بعاطفة الأب والأخ والصديق والأستاذ في آن واحد ثم قال لي نروح نشرب شيشة ونتكلم بأة…ثم ضحك وهو يردد مقولته الرائعة: سيدي بأة يا علوة. نزلنا إلى المقهى القريب وقال لي أحكي. حكيت له لساعات وخاصة صعودي لتلال شمال بيركلي ولقائي المحفور في ذاكرتي مع كريستوفر ألكسندر وكل ما تعلمته من هذه المدرسة الرائعة ومن البروفيسور نزار الصياد وسارا ايشيكاوا وهايو نيس وستيفن توبرينر ومانويل كاستيل وألان جاكوبس وأخرين. قلت له ما تعلمته من الشارع من المدينة ومن الحرم الجامعي ومن المقاهي. تأملني لبرهة ثم قال لي بنبرة حازمة: علي، لا تخن فنك أبدا، هل فهمت؟ نظرت إليه متوسلا مستفسرا. قال لي لا تجعل أي شيء أو أي ضغط يجعلك تتراجع عن فنك ومبادئك ومفاهيمك. أنت إنسان مفكر وناقد ولك رؤية وأمامك رحلة نضال مرهقة ولا يجوز فيها التنازل والاستسلام وخيانة فنك وقدراتك فأوعدني ألا تفعل هذا أبدا ومهما كانت الضغوط.

   

يا إلهي يا حليم، كما أنت عظيم. لم يقل لي افتح مكتب وأعمل عمارات في المهندسين وفيلات في أكتوبر. لم يقل لي زمايلك الشطار راكبين مرسيدس، عقبالك قريبا. لا، بل قال لا تخن فنك أبدا. نعم حليم فارق لأنه أوقد داخلي هذه الشعلة النضالية التي جعلتني أتحدى نفسي كل يوم بألا أقوم بأي نوع من أنواع الخيانة لفكري ومبادئي وقدراتي ومشروعي الأكاديمي والبحثي والمعماري والنقدي والعمراني. جعلني أتجنب تماما الميوعة الأخلاقية والديبلوماسية الاكاديمية الفاسدة والروتينية البحثية المملة. نعم يا حليم كم أنت فارق وملهم ومحفز. كم أنت معلم. لاحقا وأنا اشغل منصب رئيس قسم العمارة في جامعة العلوم الحديثة والآداب وفي المرة الأولى التي تنظم جامعة القاهرة مؤتمرها السنوي ومسابقة للطلاب على هامش المؤتمر قام بتحكيمها حليم مع بيتر دافي رئيس تحرير مجلة "المراجعة المعمارية" رحمه الله، فاز فريقي بالجائزة الأولى. أقترب مني بعد إعلان الفوز وقال لي ألم أقل لك، حتى وأنت في جامعة خاصة خلقت الحالة المخلصة التي تجعل طلابك يتنافسون ويتفوقون بحل عميق وفكر متميز. أنا فخور بك يا علي. وتذكر دائما، لا تخن فنك ولا تتنازل أبدا.

  

أستاذي الحبيب ومعلمي الفارق، قد لا تقرأ رسالتي ولكنني أقول حتى وأنت في أشد لحظات ضعفك، حتى وأنا أوقف دموعي بصعوبة وأنا أراك جالس على كرسي متحرك، حتى وأنا عاجز عن أن أراك لأنني لا أستطيع العودة إلى مصر، أنت ملهم يا حليم، أنت فارق والفارقون قلة. لن أحزن عليك إذا فارقت الحياة لأنك موصول مع الجنة ومسكون بروح الله. أحبك أستاذي الفارق ومدين لك حتى نفسي الأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.