شعار قسم مدونات

تهميش ومعاناة.. أبي عامل يومي في البناء!

blogs عامل بناء

أبي عامل يومي في البناء، لم يلج المدرسة قط، لا يعرف القراءة والكتابة، ما زال يدرس بمدرسة الحياة الرهيبة لمدة خمسين سنة ونيف، غادر كأترابه أحد قصور سجلماسة منذ أن أصبح يعي بفقر المنطقة والعائلة، متوجها إلى مدينة فاس ومدن أخرى ليبحث له عن عمل، فما كان له إلا أنه اتجه إلى العمل كمساعد في البناء وهو لما يشتد عوده بعد، ليتقاضى أجرة زهيدة كان النصيب الأوفر فيها يرسل إلى الأب. لماذا التوجه صوب امتهان عامل يومي في البناء؟ من لم يدرس وازداد في محور الفقر، مصيره الغير الاختياري امتهان الأعمال الشاقة دون حكم لقاضي ودون اقتراف لجرم، هكذا كان جواب أبي، لكن لعله جرم اقتراف الحياة يا أبي، وجرم الدولة التي لا تأبه لمواطنيها.

نصف قرن وما يزيد، شيد منازل وبنايات تقع في ملكية الغير، مقابل أجرة لا تساوي جزءا بسيطا من شبح الموت المتربص به في كل لحظة وحين في غياب أدنى شروط السلامة. لا تعد فرص النجاة من الموت المحقق، لقد هوى مرات عديدة من عال، وسقطت عليه آلات وأدوات البناء، ليتعرض لكسور وكدمات في ظل غياب للتغطية الصحية أو شيء من هذا القبيل، كان له زميل في العمل قد تعرض لصعقة كهربائية ليسلم الروح لبارئها توا، ليخلف من ورائه أسرة مجهولة المصير، وثمن تشيع جثمانه، واعتراف السلطة بتسليمها شهادة وفاة، أما آخر فقد سقط من الطابق الرابع ليفارق الحياة وهو في زهرة العمر. مخلفا ورائه مأساة الوطن وبؤس الحياة.

كان أبي لا يعرف معنى الاستقرار الوظيفي، قد يشتغل أياما ويجلس في موقف عمال البناء للشهور، كان في طريق مجهول يردد دائما الرزق على الله، وحتى انتهاء عمله في أحايين كثيرة لا يتقاضى أجرته تحت حجة أن رب العمل أو صاحب البيت لا مال لديه، فيرجع بخفي حنين بعد العمل الشاق والشاق طيلة اليوم، فمن سيسدد التزاماته؟ من ينفض عنه غبار الحياة طيلة هذه السنوات التي قضاها بثياب رثة أشعث أغبر وسط كومة من الرمل والخرسانة؟ 

عمال البناء والعاملون اليوميون، لا مكان لهم في السياسة العامة للدولة ولا مخطاطتها، هم خارج دائرة الاهتمام الحكومي، لا بند ولا قانون ينصفهم، موقعهم هامش الدولة، ولا تمثيلية نقابية لديهم تدافع عنهم

مفهوم الوطن يلخصه في تسديد فاتورة الكهرباء والماء والضرائب وبطاقة تعريف، مجرد رقم داخل رقعة الوطن كما يقول وسيرحل في صمت لينسى في مقبرة الحي المنسية الواقعة في أعلى السفح بلا جدران ولا حارس، هو لا فرق لديه بين الموت والحياة، بل الموت أرحم لديه من اقتراف فعل الحياة، الموت هو المحدد للتقاعد وأخذ راحة أبدية من العمل وبدون راتب، هو لا يحلم بالتقاعد بعد سن الستين ولا يخطر على باله أمر كهذا.

عمال البناء والعاملون اليوميون، لا مكان لهم في السياسة العامة للدولة ولا مخطاطتها، هم خارج دائرة الاهتمام الحكومي، لا بند ولا قانون ينصفهم، موقعهم هامش الدولة، ولا تمثيلية نقابية لديهم تدافع عنهم، ولا إعلام يتحدث عنهم إلا عرضيا، إنهم يصارعون مهامه الحياة بلا سند وبأيد فقدت نعومتها وأصبحت خشنة تسيل دما وغبارا.

في مقال له على صحيفة أخبار اليوم يكتب جمال بدومة ما يلي: عامل البناء في الدول التي تحترم مواطنيها يعامل مثل المهندس. يتقاضى أجرا محترما، ويشتغل في ظروف توفر له السلامة البدنية، والكرامة الإنسانية، وعندما ينهي عمله يخلع ملابسه وقفازاته ويذهب لأرقى المطاعم أو أفخم المحلات كي يسهر دون أَي عقدة نقص، مع سائر خلق الله. أما في "أجمل بلد في العالم"، إذا كنت تشتغل بعضلاتك في أوراش البناء، يحكم عليك أن تعيش على الهامش، مع أسرتك في الكاريانات وأحياء الصفيح، بجوار المنبوذين والمنحرفين والمجرمين، وأن تشرب قهوتك في محلات حقيرة لا يجلس فيها إلا أمثالك من المهمشين وأن تأكل واقفا علبة سردين وقنينة مونادا وتشتغل مثل بغل، ثم وتعود إلى بيتك في المساء قتيلا من التعب، طبعا، إذا لم تسقط من أعلى إحدى البنايات وترتاح من حياتك التعيسة إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.