شعار قسم مدونات

هكذا تحدثت الشجرة.. رواية عن أوجاع الوطن

blogs - هكذا تحدثت الشجرة

عندما ينتهي القارئ من قراءة النص فيجب أن يخرج شخصاً" ويجب أن تداهمه الأسئلة وتطوقه من كل جانب وتحاصره، هكذا يحدث للقارئ عندما يطالع رواية هكذا تحدثت الشجرة لأنس العاقل، ليدخل في دوامة من أسئلة حول الوطن وعن فلسفلة الحياة والغاية من الوجود واقترافنا لفعل الحياة داخل رقعة الوطن.

يلخص أنس العاقل الوطن في التفاصيل اليومية المعتادة ويعلنها في مطلع الرواية "ليس لي قلب في هذا الوطن، وطني قلبي أينما ارتحلت، مقهى الحي حيث أشرب قهوتي كل صباح، قيلولة عصر، غناء الصبيات حزناً، وثرثرة النساء في الافراح، وطني لغط الباعة المتجولين، شقاوة الاطفال حينما يلعبون، رائحة الخبز العائد من الفرن…وطني دعوات أمي كل صلاة وحينما أعود من السفر" الوطن هو أعمال يومية روتينية نقوم بها دون عياء ولا ملل، لكن أي وطن هذا الذي يغرق في اعتياديته، وأي وطن هذا الذي يخذلك وأنت على مشارف المنحدر؟ هكذا يتساءل عبدو الشخصية المحورية في هذا العمل الابداعي بعدما تسلل ودب المرض الى جسده ولم تنفعه بطاقته الفنية ولا رابطة الفنانين، "ليتذكر كل أولئك الفنانين والأدباء الذين لم تكن لهم تغطية صحية فتأتي كاميرات التلفزيون لكي تعرض بؤسهم على المشاهد وهم في أرذل حالاتهم يتسولون العلاج"

سأدافع عن حق أولادي في الحلم بوطن يليق بأحلامهم، ليعيد تعريف الوطن بأنه ليس بحاراً وأنهاراً وجبالاً نفردها للسائحين.

لقد أضحت المواقع الاجتماعية والجرائد الالكترونية ملاذاً لتسول العلاج، الحق الذي لا يجب أن يطلب بل يمنح دون مقابل ودون التأجيل الى حين رعاية جهة ما، لتستدر عطفها وقت ما تشاء، ليستنطق هنا عبدو ذاكرته ويتراءى له "المعارضين الذين اضطروا في أرذل عمرهم الى طلب رعاية ملكية من أجل التطبيب.. وتذكر عدسات الكاميرا وهي تصور بؤسهم بعدما كانوا يصولون ويجولون في حلبات الصراع السياسي. ربما يجعلنا الألم نعيد النظر في مواقفتا مردداً عبدو في قرارة نفسه، وهو الذي أخذته الحيرة قبل ذلك وتساءل عن الذي لا يجد قوت يومه وعلبة دواء كيف لا يخرج في الناس شاهراً ثورته."

في غمرة الآهات وعلى منعرجات الوطن وبطئ السير فيه، سيعترف عبدو أن ليس له قلب في هذا الوطن، مردداً قول الفنان التشيلي وطني قلبي أينما ارتحلت، وهو "الذي استفاق يوماً من غفوته عندما ذهب في إطار معرض فني بأوروبا ولاحظ بأن بلاده متأخرة عن العالم بأكثر من ثلاثين سنة، لم يتردد يومها فقرر البقاء في فرنسا. ومنذ ذلك الوقت لم يعد، نسي حتى والديه، لقد أصبح مواطناً فرنسياً يسير مع العالم وفق سرعته، تعلم فن التصوير السينمائي واشتغل في العديد من الأفلام الفرنسية.. مرت ثلاثون عاماً على هجرته لكنه لم يعد مطلقاً إلى بلده التشيلي. كأنه يريد أن يمحو بذلك جزءاً من ذاكرته، وعندما سأله عبدو عن السبب أجابه: لا يمكنني وحدي كفرد أن أتحمل تخلف سلالة بأكملها عن سرعة العالم، لقد رحلت الى السرعة التي تناسبني، وإلا سيحتم على الانتظار مدة ثلاثين عاماً قبل أن تتاح لي فرصة تحقيق أحلامي." لكن عبدو وبعد تواتر الأحداث سيعدل عن الهجرة، معلنا: "سأدافع عن حق أولادي في الحلم بوطن يليق بأحلامهم، ليعيد تعريف الوطن بأنه ليس بحاراً وأنهاراً وجبالاً نفردها للسائحين.. إنه الأهل والعشيرة وكل من يتقاسم معنا الحلم والجرح.

لقد كان عبدو طيلة صفحات الرواية منهمكاً في أسئلة الوطن والحب والبحث عن الشفاء والتخلص من كل الأدران والخطايا، بينما يوبا الشخصية الثانية ظل يتخبط في أسئلة الوجود وماهية الحياة، ليجد في طريقه أريناس لتحدث تصدعا بداخله وتجعله يتساءل: "يا ترى كيف عشت طيلة هذه السنين دون أن أنتبه إلى هذه الحقيقة؟ ككل الأرقام التي وردت على هذه الأرض درست واشتغلت وتزوجت ويلزمني أن أنجب سلالتي وبعدها سأنتظر الموت. ألا تحتضر الحياة بداخلي أنا ايضا؟ ربنا احتضرت من زمن بعيد لذلك فقدت الاحساس بها. ألست كائناً اعتياديا ًمفرطاً في اعتياديته؟" ألا يؤدي اختزال الحياة في العمل والزواج والإنجاب إلى قتل فكرة الحياة وكنهها، ألا نقترف فعلاً الحياة باختزالنا هذا؟ ما أضيق أفقنا وتصورنا لها. لقد كان عبدو محقا وهو يذم ذلك، " أن تمتهن مهنة حقيرة وأن تتزوج وتلد قطيعا من الأطفال ثم تفني زهرة عمرك وأنت تسهر على تدجينهم وتقوية عودهم لكي يقوموا برعايتك في أرذل العمر، إنهم لا يفعلون شيئا سوى أنهم يؤمنون على شيخوختهم ويستنسخون عقدهم في أطفالهم." أفلا نؤمن على شيخوختنا ووهننا؟  إن الوطن ليس رقعة جغرافية بل هو إحساس بالوجود والانتماء يتجدد فينا كل يوم وامتلاك للحقوق دون مذلة، والحياة ليس روتيناً متواتراً لسنوات معدودة بل فكرة تحتضر بدواخلنا في كل لحظة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.