شعار قسم مدونات

إشكالية التناقض في الشعر المعاصر

blogs - writing ink

عندما قال أبو العلاء المعرّي في معرض حديثه عن مدوّنة الشعر: أجود الشعر أكذبه. أسيء فهمه كون أن المقولة خضعت للتقويم الأخلاقي باعتبار الكذب جريمة أخلاقية تنتفي مع الحسّ المجتمعي في مداه الفردي والجماعي. لكن الكذب المقصود في الشعر هو اختلاق صورة شعرية يتماهى الخيال فيها بالواقع ويذوب المجاز فيها في الحقيقة. وقد أفرزت هذه الصور الشعرية قصائد موغلة في الجمالية لقيت طريقها إلى قلوب القرّاء، وقد اعتمدت هذه القصائد تقنيات فنية ولغوية جمّة. ومن أبرز هذه التقنيات نذكر تقنية التناقض في الشعر، وفي هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على إشكالية التناقض في الشعر المعاصر بغضّ النظر عن التجنيس من الشعر العمودي إلى الشعر الحر إلى النثري وصولا على شعر التفعيلة.

 

في البداية، هناك شبه إجماع نقدي على أنّ جلّ الصور الفنية تشكّلت في قصائد الشعر المعاصر وفق آليات عديدة جاءت دلالتها العامة في شكل بناء هرمي هو علاقة الذات الشاعرة مع محيطه بمفهوم الكل شيء، بدءا من الله خالق هذا الكون ليكون الشاعر عينا له في الأرض من أجل أصلاحها وهذا استلهاما من النص القرآني حول استخلاف الله للإنسان في الأرض.

  

أيضا علاقة الشاعر مع الناس المُعبْر عنهم غالبا بالمهمشين والفقراء والعراة والحفاة.. إنّها مسؤولية الذات الشاعرة التي خلق الشاعر من أجلها ليصبح حلقة الوصل بين الكتابة والواقع، وفي هذه الحلقة يتكوّن صراع الشاعر في عالمه الخاص بين ألم الحرمان والتعسف وواجبه اتجاه المجتمع والوطن، حيث يخوض الشاعر في هذه المنطقة معركة قصيدة وحدث، أين تتجلّى غمار النفس الشاعرة وعالمها غير المكشوف عنه أو المهمل والمسكوت عنه.

    

الكاتب الحقيقي ليس من يجيد وصف المطر بل الكاتب الحقيقي من يجيد بعث الإحساس فيك بأنّك تبتل، فالشعر بتناقضاته يحمل القارئ ليلفّ به العالم دون أن يحرّكه من مكانه

فالشاعر عين الله في الأرض وهو يرى العراق واليمن وسوريا وفلسطين وكلّ الأمة العربية المنكوبة والمكلومة تعيش في حالة جهل تام، وهذا ليس بعيدا عمّا يعانيه الشاعر والمبدع الفنان صاحب الرسالة الإنسانية. إنّ الشعر أو الإبداع عموما ينتج من منطقة عميقة مظلمة من النفس الإنسانية أسوة بذاك الشعر القديم الذي انتجه آباء التراجيديا الأولين من آرلبيد إلى واسخليوس وصولا إلى المسعدي الذي قال الأدب مأساة أو لا يكون، وقد جمعت عديد القصائد المعاصرة في جلّ صورها الفنية معظم التناقضات بين الخير والشر المألوفين للوهلة الأولى، الله في مقابل الشيطان، الليل في مقابل النهار، الحبّ في مقابل الحقد… لكن هذا التناقض خلق إشكالية جوهرية مفادها البحث في الفن عن الفن، فهيغل اعترف بكون الفنّ يجب أن يكون للفنّ في علاقة خالصة لا يشوبها منغصات الحياة المدنّسة.

 

لهذا يفتتن الشاعر بكونه الجديد الذي يشكل مفرداته من غواية الذات وتورطها المنهك في البحث عن التوهجات الجمالية القصوى كغاية للحقيقة المطلقة ومن هنا يبرز أهم وجه للتناقض، فهو يعرف سلفا أنّه من الاستحالة بمكان أن يصل إلى الحقيقة المطلقة فهي سمة الله وحده لكنّه مع ذلك يسعى للبحث عليها دون توقّف، لذلك لا يعير اهتماما للسائد الذي يصبغ حركة العالم من حوله بقناعات استسلام نمطي تدرج اللغة والصورة خارج الوعي الشعري.

 

إنّ السعي إلى تحديد مفهوم معين لتقنية التناقض في الشعر المعاصر أو ماهيته قد يرتبط بالظروف والمعطيات التي تفرزها حقبة زمنية معينة أي أنه ليس ثمة مفهوم محدد له يمكن أن نجعل منه منطلقا لقياس مدى انسجام القصائد والأشعار المنظومة في وقت ما مع هذا المفهوم النقدي المستحدث. لذلك قد يكون مجتمع معين يعيش في أسفل هرم التطور والتقدم، بينما الشعر أو الأدب في هذا المجتمع قد يكون في أزهى أشكاله وألوانه التعبيرية وهذا في حدّ ذاته شيء من التناقض. فمثلا موريتانيا الدولة الفتية الصغيرة تسمى دولة المليون شاعر لكثرة شعرائها مما يدلل على ان الشعر ليس حكرا على بلد واحد او انه ينمو في منطقة ولا ينمو في أخرى.

 

في الختام، يقول الكاتب الكولومبي الشهير خوان غابريال فاسكويز: الكاتب الحقيقي ليس من يجيد وصف المطر بل الكاتب الحقيقي من يجيد بعث الإحساس فيك بأنّك تبتل. فالشعر بتناقضاته يحمل القارئ ليلفّ به العالم دون أن يحرّكه من مكانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.