شعار قسم مدونات

كتاب الردة.. رواية لا تقرأ في منارة شنقيط!

blogs كتاب الردة

"أما السّمتُ والهوية فلم يمنحاني يوما شيئا ذَا بال“

– كتاب الردة، محمد فاضل عبد اللطيف"


من أول السلم، وعند درج العنوان؛ "كتاب الردة"، تحس أنك ستقتحم نصا شائكاً، من ذلك النوع الذي يقول فيه الأديب "بشر حيدار": "مكبلا، يأتي النص وأقنان شيفراته خليط مدفون في غلالة ورطة حبرية من رقمنة الحرف وحرفنة الأرقام! قادما من العتمة، يُرمى النص حافة الضياء في زنزانة فردية تحضنها جدران مكتنزة بالصراصير وكتابات الوحشة للحرية، وتؤمها جرذان جائعة تقضم كل شيء حتى الزمن! والقرّاء وحدهم من لهم القدرة على رؤية النص طليقا؛ ينعم بالحياة تحت الشمس وفيها إلم تخذلهم نظارات القرب المتعودة على صفاء القمر"!

بل هو نص حمل ذلك التيه الديالكتيكي، الذي يضع الإنسان في أماكن انحسار الماء، وتراقص علامات الاستفهام في العقل، بحثا تلك الطمأنينة التي سأل من أجلها إبراهيم ربه.. وليس غريبا كذلك، أن يحمل هذا العمل سؤال الهوية، على من قال ذات حوار، أنه: "متشظٍ بين وطن يصله ليلاً، وآخر نيطت منه عليه تمائم". تشعر أنك لا تمسك كتابا، يتضمن رواية؛ بل إسفنجة مبللة تمتص أدخنة مباخر الكهنوت، ويوقف أمام المرايا، عاريا؛ ذلك اللامرئي- إلا في التواري- لمجتمع ظلت عفونته، متشحة ملاحف الورع ستراً، ودراريع التقوى الفضفاضة مواربةً، من حقيقته المتقيحة، "طافياً على غيمة التبغ" التي افتتح بها عمله. لقد خرج ”محمد فاضل“ هذه المرأة، متزنرا قلمه مشرطاً يشرح به جسد موريتانيا الحنطي، كاشفاً لتناقضات التدين والدين، فاتحا الباب أمام تساؤلات جمة، من بينها هل نحن مسلمون، متأسلمون، أم متمسلمون؟!

أرغم الكاتب القارئ بأسلوبه الفذ، والمتفرد؛ على ارتداء ثوب ”الرهبنة“؛ كي يستمع للجراح الغائرة عمق جسد التاريخ، وهي تحكي من تحت ضمادها البالية

”ناقل الكفر ليس بكافر“، وكتاب الردّة، ستظل رواية تجاوز فيها الحقيقي بالمتخيل، لكنها ستظل مرآة لحقيقة شنقيط منارة الإسلام والعلماء.. منارة الكبت والجهل واللاوعي.. لذلك خرجت رجال من شمع، ضده من وكناتها، شاهرة ألسنتها التي تريقت غلاً؛ كما اعتادت على كل ما هو تنويري؛ حتى أصم صياحهم كل أذن ما بين الرياض وشنقيط.. الغريب ليس هذه الزوبعة، فهي أمام الأدب تمثل معضلة، تبقى في المحصلة التاريخية، بحجم الفنجان أمام الكتاب.. الغريب أن الكاتب، رأى ذلك منعكساً في مداد دواته، وتضمنه في عمله، كأن حدقة يراعه تناصت مع عيون ”زرقاء اليمامة“، فتبول عليهم من قبل أن تزبد أفواههم، ولو أنهم قرأوا العمل، لتفطّنوا لذلك في الصفحة ال103، التي جاء فيها ”ستظل تلك الحرب دائرة، ليس لأن الرذيلة والفضيلة توأمان، بل لأن حاجة الإنسان للالتزام بقواعد لا توازيها إلا حاجته لخرقها حين تضيق“، ولعمري قد خرق بسن قلمه خيمتكم المبنية على التناقضات.

وليست غريبة هذه الكتابة ”الكاميكازية“ على ”محمد فاضل عبد اللطيف“، صاحب رائعة ”تيرنجا“، التي تقمص فيها من ”الكاثوليكية“ طقوس ”الاعتراف“، وأرغم القارئ بأسلوبه الفذ، والمتفرد؛ على ارتداء ثوب ”الرهبنة“؛ كي يستمع للجراح الغائرة عمق جسد التاريخ، وهي تحكي من تحت ضمادها البالية، مميطة النقاب عن الوجع المضمخ بحمرة الدم القاني، والمتضوع برائحته الكريهة، وتنفث الرماد عن جمر حكم العسكر في موريتانيا لتضعه أمام مرايا حقائق حكمه الأرعن.

المضحك، أن المتتبع لأخبار هذا العمل، من مهووسي الأدب، كان ليتنكر لغرائبية الواقع، أو كان ليظنها فقرة هاربة من رواية، كروايات مقبرة الكتب ل”كارلوس ثافون“، وكيف لا، والقصة تسيل لعاب الكتاب.. فقبل أن تصلني الرواية، من موريتانيا، تتبعت أخبارها، وكانت عادية، بالنسبة لي، كأي فرد من مجتمع يحرس النوايا، يمارس الوصايا، ينصب المشانق للإبداع، ويحاكم الخيال، حتى أثارتني حكاية الحرب التي شنت على كتاب لا ذنب له سوى أنه أطلق رصاصة الرحمة على جثة متشوهة لقوم يعانون انشطاراً هوياتياً، وأزمات تدين، تشبه لعبة ”الماتريوشكا“ الروسية، إذ تتوالد الصراعات المذهبية، المتعدد والمتناحرة، لا لشيء سوى لتفسير الماء بالماء.

خرج من شرنقة كل هذا ”سمسار وثائق“، وبائع ”ملاحف“، وأرسلا للسفير الموريتاني في الرياض، يشتكيان من خيال، مواطن سعودي ذو أصل موريتاني، ويطلبان من معاليه أن يتدخل لأن هذا الشخص/الكاتب، يملك ما قال عنه ”دوستويفسكي“: ”الكلمة شيء عظيم“. ولأن الشيء العظيم، الذي تصغر في عينيه العظائم؛ تتطلب مواجهته سلاحاً عظيماً، كان لزاماً أن يراسل السفير كلاً من وزارة الخارجية، وزارة الداخلية، ووزارة الإعلام! لكن تلك الأمواج تكسرت على صخرة النص، وبلع أهلها الملح، أجاجاً يزيدهم عطشاً ولا يرتوون. كل هذا، ليس ذنب الكاتب، لأنه ليس مَعني إذ القارئ لم يعي الصورة التي يرسمها، ولا حتى ذنبه أن يكبر ليكون على مقاس النص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.