الثالثة بعد منتصف الليل اليوم هو 9 من أكتوبر عام 1898م هنا حي محرم بك بالإسكندرية، تباشر القابلة عملها في وضع أخت زوجة صاحب المنزل، الرابعة فجرًا أقبل أخينا إلى الدنيا وهو يشبه والده كثيرًا، الأم مُتعبة وهي في بيت أختها لتعينها على الوضع وترعاها جيدًا؛ إذ إن زوجها يعمل وكيلًا للنيابة في إحدى قرى الريف، تلك كانت ولادة الحكيم، فوالده من أصل ريفي، وكان محبًا للأدب وللغة العربية، وعرف بين زملائه أمثال عبد العزيز فهمي، ولطفي السيد بولعه الشديد بالفلسفة والشعر، حتى إذا أقبل قالوا:
"يا مرحبًا بالفلسفة!"
فيرد قائلًا: "إن لم يكُن فيها سفه".
والأم أرستقراطية أحد أبناء الضباط الأتراك، وكانت قوية الشخصية، لها رأيٌ وبعد نظر، فكانت دائمًا ما تحذر والد الحكيم من مغبة اهتمامه الزائد بالأدب والشعر والفلسفة، وأن ذلك سيكون على حساب خسارة وظيفته يومًا ما وهم في حاجة إلى المال، فكان ذلك وما للزواج من هموم، ومسؤوليات داعيًا لابتعاده عن الأدب وما يحب؛ حرصًا على الوظيفة، حمل توفيق الحكيم والدته سبب هذه النتيجة؛ إذ اعتقد أن شخصيتها القوية الحازمة هي التي تحكمت في مصير أبيه، ولكنها أكدت له أن هذه طبيعة والده، وأنه كان يستشعر المسؤولية تجاه أسرته، من هنا كتب الحكيم جملته الشهيرة "إن ما لا يُحل بالعقل، يُحل بالجنون". ولكن طبيعة بعض الناس لا ترضى إلا بحلول العقل.
كان لعيش توفيق مع عمه مدرس الرياضيات في حي السيدة زينب بالقاهرة أثرًا كبيرًا في حريته المطلقة التي ما لبث أن استغلها في إشباع ذائقته الفنية، فكان اهتمامه بالمسرح يزداد شيئًا فشيئا |
مرت الأيام وكبر الحكيم، وكان أول انفعال جمالي له مع التلاوة القرآنية؛ إذ كان الشيخ الذي يحفظه ويتلو عليه ذا صوتٍ جميلٍ عذب، فكان يقلده ويشعر بلذة في ذلك، تأخر الحكيم في دخول المدارس الأميرية؛ إذ كان والده كثير التنقل بين المديريات بطبيعة عمله، فانتسب متأخرًا عندما أصبح والده قاضيًا بالقاهرة، وهناك انجذب إلى الرسم وأحس فيه بنفس السرور الذي يحسه وهو يتلو القرآن الكريم، ولكن لم يستمر في هذه الهواية، يقف الحكيم عند هذا الجزء حائرًا، لماذا نشأت هذه النزعة الفنية في داخله؟ ولماذا تقترب بسرعة إلى كل ما يلائمها من أوضاع كأنها روح شبح يتحسس الأجساد التي يكتب عليه أن يحل في أحدها، ثم يظهر السؤال: أكان من الممكن أن يتخذ طريقًا آخر في الحياة؟
وفي القاهرة بدأ عهده الجديد بالقراءة على خلاف ما كان في الريف، فاستغرق في قراءة القصص على نطاق واسع، والتهم منها الجيد والردئ على حد السواء، ومن طريف ما ذكره عن عهده الأول بالقراءة، عندما كانت الكثير من معاني الكلمات تستعسر عليه، من ذلك كلمة (نَص) فكان ينطقها بضم النون، ويفهمها على أنها نصف، وعندما تصادفه قصة ويكون مفتاحها في خطاب ويقول الكاتب: "وها هو نص الخطاب" فيثور في نفسه الضيق ويقول لماذا نصه؟ أنا أريد الخطاب كله. ولكن والده ما كانت ترضيه هذه المطالعات، والويل له إن لمح في يده قصة، وذات جمعة ناداه أبوه قائلًا: " تعالَ امتحنك، وناولني كتاب المعلقات السبع" وأخرج له معلقة زهير ابن أبي سلمى، وأمره بالقراءة، فلما وصل إلى بيت: مَن لم يُصانع في أمور كثيرة
يُضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمٍ، سأله عن معنى المصانعة، فلم يوفق، فضربه على وجه ضربة أسالت الدم من أنفه.
كان لعيش توفيق مع عمه مدرس الرياضيات في حي السيدة زينب بالقاهرة أثرًا كبيرًا في حريته المطلقة التي ما لبث أن استغلها في إشباع ذائقته الفنية، فكان اهتمامه بالمسرح يزداد شيئًا فشيئا، وإلى جانب ما كان يقوم به من نشاط مسرحي مع أصدقائه، كان يذهب إلي مسرح عكاشة، ويعيش في كواليسه، ويتحدث إلى ممثليه، وصار مسرحه الذهني فيما بعد علامة مضيئة، حتى أنه في هذه الفترة سار في طريق ربما يجعله نجمًا سينمائيًا، لكنه سرعان ما توقف، كان توفيق الحكيم يسير في كليته سير المترقب، فلم يكن من طلابها المميزين، ورسب في السنة الأولى منها، إلى أن شاء الله وتخرج فيها، فلما سأله والده عما سيفعل في عمله، خاف أن يذكر له ما يتعلق بالمسرح والفن، وذكر أنه يحب الأدب كالأستاذ لطفي السيد، فسخر والده منه ومن لطفي السيد، وأخذه وذهبا إليه في دار الكتب فأشار عليه بالذهاب إلى فرنسا لنيل الدكتوراة، فكان السفر وهناك عاش الحكيم حياة مختلفة واهتم بالفن والمسرح أكثر، وقضى فترة طويلة ولم ينل الدكتوراة، حتى عاد بأمر من والده، إلى أن توفى والده وأصبح الحكيم، الأديب والكاتب الذي نعرفه الآن.
عاش الحكيم حياته سجين طباعه التي اكتسبها من والديه، فكان حكيمًا كوالده حريصًا في إنفاق المال، لا يميل إلى الصخب والأضواء، وأخذ عن والدته العاطفة، والكرم بعض الأوقات، ومال إلى الجمهور قليلًا، يقول عنها: "هذا السجن الذي أعيش فيه من وراثات كأنها الجدران، هل كان من الممكن الخلاص منها؟ حاولت كثيرًا كما يحاول كل سجين أن يفلت، ولكني كنت كمن يتحرك في أغلال أبدية، والنسبة الضئيلة التي تركت لي حرة من حياتي قضيتها كلها في الكفاح والصراع ضد العوائق، حريتي هي تفكيري، أنا سجين في الموروث، حر في المكتسب".
لا تلقوا بأبنائكم في الأماكن التي لم تستطيعوا دخولها، لا تجبروهم على شيء، هذه حياتهم، لا تضحكوا عليهم بوهم كليات القمة، لا تسجنوهم في طباعكم التي كلما أرادوا أن ينسلخوا منها ليعرفوا ذواتهم، اتركوا لهم مساحة حرة؛ ليبدعوا ما يحبون، ساعدوهم على مواجهة الحياة، علموهم الصبر والصمود، افتحوا عيونهم على الدنيا الواسعة، وأنيروا عقولهم، وامنحوهم الخيارات وأعينوهم في تنفيذها، اتركوهم يقعوا، ليقوموا أكثر قوة، وأشد عزيمة.
هذه التدوينة إهداء إلى روح الكاتب الدكتور مُعلم الجيل أحمد خالد توفيق، رحمه الله وتغمده برحمته.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.