شعار قسم مدونات

هل يستطيع الفن أن يخلق حراكا ثوريا؟

blogs جرافيتي الثورة

هناك سؤال مرتبط دائمًا بالفنون والمهتمين بها أو بالأحرى تهمة. وهي أن الاهتمام بالفن رفاهية زائدة لا يستطيع تحمل تكلفتها الفقير والجائع والمحتاج. وأن المهتمين بالفنون نخبة من الناس انتهت جميع مشاكلهم في الحياة حتى لم يبقى لهم سواء ذاك الاهتمام. فما الجدوى من الاهتمام بالفنون في عالم يموت فيه طفل كل 15 ثانية من الجوع؟ وما حجم التغيير الاجتماعي الذي نستطيع أن نعول عليه من وراء الفن؟ ومن ذاك الذي قال إن الفن قد يُنقذ العالم؟

عددٌ من الأسئلة التي عادة ما تلقى في وجه المهتمين بالفنون تشكيلية كانت أو غير ذلك. ورغم أن الإجابة عن تلك الأسئلة يعد أمرا إشكاليا، إلا أن فهم طبيعة القوى الدافعة للتغيرات الاجتماعية قد يسلط الضوء على أهمية الفن. هل يستطيع الفن أنّ يُحدِث تغيير جوهري في المجتمع؟ نعم، يستطيع. فالفن يعكس دائما أعمق التطورات الاجتماعية وأشدها رعبا. وسواء كانت التغيرات الاجتماعية هي التي تقود الفن أم الفن هو من يقود التغيير الاجتماعي، في علاقة جدلية، فإن التغيير الجوهري الذي يقوم به الفن ليس في خلق حالة تمرد ضد وضع سائد أو أن يعكس مأساة ما فقط.

للفن، على الرغم من ذلك، دورًا أكثر محورية وأشد خطورة. وهو أن الاهتمام بالجماليّات بوجه عام يخلق في النفس البشريّة ما يُمكن اعتباره الغاية من الوجود الإنساني على الأرض منذ أول الخليقة وحتى الآن. وهو أن يستحسن الإنسان ما هو جميل ويستقبح ما هو قبيح؛ فلا يقبل الدنية على نفسه أو على غيره.

هل يستطيع الفن تغيير المجتمع؟
الإبداع لا يقتصر على الرسم أو الغناء أو المسرح. بل أن الدفاع عن صوت الشعب وحقه في التعبير عن رأيه ضد كل صور الهيمنة والظلم والقمع لهو أيضًا عمل ابداعي وثوري في آن

الفن واحد من الأدوات الحساسة التي يمكن بموجبها فهم في أي اتجاه يسير المجتمع. فهو لا يسير وفق التدفق الطبيعي للظرف الاجتماعي والأحداث بقدر ما يعكس أو يحرك تلك الأحداث. وهذا الدور بالتحديد هو ما يستهدفه الدكتاتوريون، الفن والفنانين، مع خصومهم السياسيين. وذلك لأن التعبير عن الحرية، في أي شكل من أشكال الفن، يمكن أن يُشعل نار التمرد. فإذا كان الفنان ملتزم بعمق تجاه قضايا وطنه؛ فهو بعمله الفني يستطيع معالجة أكثر القضايا إلحاحا. وسواء كانت تلك المعالجة عن طريق الفنون البصرية أو الأدبية فإنها في جوهرها ممارسة مجتمعية تفاعلية قد تشعل مطالب التغيير أو توفر مساحات للتفكير الحر.

فتحدي المناخ السياسي والسياق الاجتماعي وغرس فكرة "الحاجة لوضع أفضل" في نفوس الناس كفيلٌ بأن يجعل الفن على قائمة أولويات أي نُخب ثورية أو قوى اجتماعية مؤثرة. فالنفوذ السياسي، وإن كان قاهرًا وقمعيًّا، لا يستطيع أن يكبح زمام الخيال إذا ما تمنى الناس عالما أفضل.

التحديّات التي يواجهها الفن في سبيل التغيير

يعتبر الفهم المستنير لقضايا وحاجات المجتمع في ظل الحاجة لحراك ثوري أكبر التحديات التي يواجها الفن وفئة الفنانين أو المهتمين بالأعمال الإبداعيّة ككل. ففي الوقت الذي يوجد فيه مئات الأبواق الإعلاميّة التي تعمل على ترسيخ أقدام أي نظام ديكتاتوري؛ يقع على عاتق النخب الفنية، التي تسعى نحو تغيير حقيقي، مسئولية تقديم مشاريع فنية فعالة تعالج قضايا حرية الرأي والتعبير والعدالة الاجتماعية. وتلك المشاريع حين تستخدم الفن، تشكيلي أو فوتوغرافي أو مسرحي أو حتى الكتابات الإبداعيّة، فهي بصدد زرع مفاهيم الحرية والعدل والجمال في مواجهة العنف والظلم والطغيان. فالمطلوب هنا والآن، عدل وحرية ومساواة، وليس أن نعيش على أمل كفاف العيش وموت رحيم وجنة سوف تأتي.

 

فتغيير العالم ليس مطلب مستحيل بل هو ممكن في أفق من الرؤية المستنيرة لمعطيات الواقع. فيكون الفن بذلك أداة للانتقال الديمقراطي في بلاد لم تعرف عن الانتقال سوى التحول من سيئ لأسوأ ومن الأسوأ للأكثر سوء. لذلك، فإن خلق واقع مغاير انطلاقا من مشروع فني واضح الأهداف وواثق من أدواته يُمكن أن يكون نواة حراك ثوري يحرر من الاضطهاد والطغيان. وبالرغم من أن لا شيء في واقعنا الحالي ينبأ بأمل جديد، إلا أن إمكانية انطلاق تلك المشاريع وعدم استحالتها يفتح أفق أمل في هذا المشهد المظلم.

هل يكون الفن شرطا ملازما لأي حراك ثوري؟

للإجابة عن ذاك السؤال، يُمكن النظر لثورة 25 يناير في مصر كمثال، فقد صاحب حالة الحراك الثوري عشرات الأعمال الفنية المؤيدة لتوجهات شباب 25 يناير حول حتمية التغيير والتخلص من الوضع القائم.

بين أغاني ثورية، اسكتشات مرسومة وجرافيتي وصور فوتوغرافية، تعددت وسائل التعبير عن الحلم الثوري ومآلاته. ودور الفن هنا لم يكن فقط استجابة لحالة الحراك الثوري، بل أنه كثيرًا ما كان معبرًا عن انكسارات الثوار وانحراف المسار. فبعد اللطمات المتلاحقة التي تلقتها الثورة من النظام القديم ظهرت العديد من الأعمال الفنية التي حاولت اشعال فتيل الغضب مرة أخرى في وجه الحكم العسكري. وقد اشتهرت الجداريات التي ملأت شارع محمد محمود في التحرير بكونها الأكثر تعبيرًا عن ضراوة ذلك الحكم. وبالطبع، قد تكون فاتورة تلك المشاريع الفنية باهظة الثمن. ونحن إذ نستحضر الفن والحرية والحراك الثوري لا يسعنا تفادي ذكر عشرات المبدعين الذين دفعوا أرواحهم ثمنًا لفنهم وكلمتهم، وأبرز من يتصدر تلك القائمة هما رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي والأديب والصحفي الفلسطيني أيضًا غسان كنفاني.

فالإبداع لا يقتصر على الرسم أو الغناء أو المسرح. بل أن الدفاع عن صوت الشعب وحقه في التعبير عن رأيه ضد كل صور الهيمنة والظلم والقمع لهو أيضًا عمل ابداعي وثوري في آن. فالقهر السياسي الذي سيطر على واقعنا العربي يحتمان على النخب الفنية خوض معركة الفن من أجل حراك ثوري لا محالة. لقد تقطّعت السبل حتى لم يعد هناك طريقًا آخر غير ذلك. أن تضع النخب الفنية والفكرية مشاريع تعتمد جوهريا على الفن بوصفه أداة حيوية قادرة على خلق حراك ثوري ضد كل أشكال الاستعباد والديكتاتورية. الشاهد، إن التوجه الثوري الواقع على عاتق الفن الآن ليس أمرًا اختياريا بل حتميا. فلا يمكن لعمل فني أو إبداعي أن ينبت في بيئة لا تعرف غير الأغلال والسجون والقيود. بالأحرى، لقد صار الهم السياسي لأي مجتمع واقع في نير الفاشية السياسية هما للنخب الفنية أيضًا بوصفهم فنانون وليس مجرد مواطنون.

"إنّ الحريّة هي الجوهرة الوحيدة المتبقيّة لنا في زحمة الضغوطات اليومية."

 – إيمانويل كانط


فالعملية الإبداعية تقتضي حتما قدرًا كبيرًا من حرية الرأي والفكر والتعبير. والحرية هي حاجة ملحة وطبيعية في النفس البشرية. حتى إذا ما وصلنا لها، صار للإنسان القدرة على أن يستحسن ما هو جميل ويستقبح ما هو قبيح؛ فلا يقبل الدنية على نفسه أو على غيره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.