شعار قسم مدونات

لما كنت سلفيا!

مدونات - صلاة
تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام الخوالي، لما كنت أستكشف الحياة لأول مرة بعد أن وعيت ما حولي، فكنت أتنقل بين المذاهب والأفكار التي كانت تبدو شامخة بأعلامها، ومدارسها، ثم ما تلبث أن تتهاوى بعد أن يتبين لي عورها وتهتز أساساتها النظرية التي تقوم عليها، أو عندما يصطدم الفكر بالواقع فيصبح هشيما تذروه الرياح لعدم قدرته؛ لا على تفسير ظواهر الواقع، ولا على معالجة مشاكله… وإني الآن بصدد الحديث عن "تجربتي السلفية"، بما كنت أراه "أنا"، وما كنت أفكر فيه "أنا"، فقد يكون ممن مر بالتجربة ذاتها، أو لا يزال يقول بأنه سلفي، ويرى العالم من هذا المنطلق، لكنه قد يخالفني فيما أقول، وقد ينعتني بعدم فهم المنهج السلفي، لذا فأنا لا أعمم. لكن من حق القارئ أن يسقط بعض المقولات على واقع السلفية لينظر أصدَّقَ قَوْليَ الواقعَ أم كذبهُ.
     
في البداية ينبغي الإقرار بأنه هنالك عدة أنواع من السلفية، فمنها سلفية "النكاح واللحية"! التي يتمحور خطابها حول تعدد الزوجات، وواجب إعفاء اللحية، وما يدخل معهما من الهدي الظاهر، وهناك "سلفية ولي الأمر"! وهي التي باتت الآن تعرف بالمدخلية، التي يتمحور خطابها حول: "وجوب طاعة ولي الأمر المسلم الظالم، وحرمة الخروج عليه -وإن ضربك وجلدك وأخذ مالك!-"، حيث جعلت من هذه المسألة الأصل الأصيل في أصول الدين، حتى رتبت عليه الولاء والبرآء؛ فكان التظاهر محرما لأنه بدعة في الدين، والمبتدعة أشد خطرا على المسلمين من الكفار الأصليين، ومنها وجب البدء بمحاربتهم، أما "السلفية التكفيرية" فتلك سلفية أخرى؛ مبدأها الأساس هو أنت كافر لأنك تخالفني في الرأي! ومنها "الجهادية" و"العلمية" فكلها تدعي بأنها سلفية، فما السلفية؟
   

الحجر على العقل الإسلامي، وخصوصا عقول الشباب، غالبا ما يأتي بردات فعل معكوسة تماما، فالسلفي إذا ما استفاق بعد أن يصدم، فإنه غالبا ما يغير جلده كليا، ليصبح حداثيا، أو عقلانيا، أو ملحدا، أو عولميا

يجيب السلفي -وكنت أجيب- بأن السلفية هي منهج في الدين للتعامل مع النصوص، وهي: "فهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة"، هكذا بكل بساطة! لكن من هم سلف الأمة هؤلاء الذين فهموا القرآن والسنة، والذين وجب اتباعهم؟ أخذا بعين الاعتبار أن الإسلام امتد في الزمن أكثر من أربعة عشر قرنا، وامتد في المكان حتى بلغ كل الأرض -إن لم يكن دولة فأفرادا-. هنا يتدخل الشيخ السلفي لينتقي من تراث الأمة ما يوافق دعوته السلفية، فيبدأ التاريخ الإسلامي، ومعه الفكر الإسلامي، بالعهد النبوي -وهذا تشترك فيه كل فرق الإسلام- ثم بعهد الراشدين، ثم بعض التابعين من أهل الحديث، وتابعيهم أيضا من أهل الحديث، ثم ينتقل إلى الإمام أحمد؛ المرجعية الكبرى في الفقه وفي الحديث، ثم يقفز التاريخ إلى عهد ابن تيمية وابن القيم… ثم إلى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ثم إلى الشيخ الألباني، وابن عثيمين، وابن باز، ثم يأتي بعدهم الشيوخ المعاصرون الذين ينقلون عن هؤلاء، فيجيب الشيخ المقلد إذا سئل عادة بقوله: "قال ابن عثيمين في المسألة.." ويكون لهذا القول سلطة على المستفتي، فليس أمامه إلا السمع والطاعة! فهؤلاء هم الفاهمون الذين لهم المرجعية والقدرة على فهم مراد الله. إذا فالسلفية التي هبت رياحها من المملكة العربية السعودية -حتى ندقق العبارة ونحصر أنواع السلفيات- تدور في هذا الفلك وهذه مرجعيتها..

   
فهي مذهب يقوم على "المشيخة!"، وإن ادعى السلفي أنه يحارب "المشيخة" عند الصوفية! وينتقد فيه خضوعه التام للشيخ "كالميت بين يدي غساله!"، فالسلفية بدورها تقوم على نفس المبدأ؛ الفرق هو أن الشيخ الصوفي يدعي تطهير النفس، بينما السلفي يدعي تطهير العقيدة من البدع والشركيات. ومفهوم البدعة هذا من أكبر المفاهيم تضخما في الفكر السلفي، فقد تجد من الرسائل المؤلفة في بدعية السبحة أكثر من الرسائل المؤلفة في ضرورة تحرير المسجد الأقصى! وهذا ليس مستبعدا نظرا للتضخم غير الطبيعي للمفهوم، منذ أن ظهرت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الآن، وإذا كان لدعوة الأخير مسوغاتها الزمانية والمكانية، فإن هذا التضخم في مفهوم البدعة عند السلفي المعاصر لا مسوغ له، حتى إن السلفي القح! قد تعرفه بمجرد تتبع أقواله؛ فإنّ أكثر الكلمات تكررا في قوله هي "بدعة"، وأول حكم يصدر منه هو قوله "هذا بدعة"، والتهمة الأولى للخصم هي: "فلان مبتدع " أو "لا تقرؤوا ولا تسمعوا للمبتدعة لأنهم أشد خطرا".
   
فمن هم المبتدعة الذين تحاربهم السلفية المعاصرة؟ وهذا يدفعني إلى التطرق لمعارك السلفية. بحسب تصوري، فإن السلفية تحارب "ظاهريا"-عند التوظيف الاستخباراتي تحارب كل ما من شأنه أن يهدد النظام الذي يستخدمها- في ثلاث جبهات مختلفة، وفي كل جبهة من هذه الثلاث ينبغي استحضار تضخم مفهوم البدعة:
  
الجبهة الأولى: وهي الشيعة: فلقد راكم الفكر السلفي تراثا ضخما في محاربة ومناظرة الشيعة، وكشف عقائدهم، والتحذير منهم، فالشيعة هم العدو الأول للسلفي، لأنهم أس الداء وأصل كل بلاء، وهم أيضا أكبر المبتدعة..! فالمعركة السنية الشيعية يمكن أن يصنف فيها التيار السلفي على رأس الجبهة السنية، ولذلك تجد في الخطاب الشيعي بالمقابل؛ أن أول ما يتهم به منتقدهم بأنه "وهابي".
  
الجبهة الثانية: وهي الإخوان المسلمون: وهذه الجبهة أيضا فيها الصراع على أشده، وهنا يظهر التوظيف السياسي للفكر السلفي، ولرموز السلفية، من طرف بعض الأنظمة من أجل تصفية الخصوم السياسين (الإخوان)، وضربهم بخطاب ديني مواز لخطابهم الديني، فتجد أن بعض شيوخ السلفية يجعلون من وصف الإخوان مسبة وتهمة! فبمجرد أن يقول الشيخ: "فلان من الإخوان" يعني أنه من المبتدعة الضالين الذين ينبغي الحذر منهم… أذكر أني في أحد الأيام، كنت في أحد الأجنحة في المعرض الدولي للكتاب، فاستوقفني كتاب بعنوان "رسائل الإمام حسن البنا" فحملت الكتاب وبدأت أتصفح أوراقه، فقال لي أحد المتجولين في الجناح، ممن تظهر عليهم ملامح الثقافة: "إنه كتاب جميل أنصحك به، ستستفيد كثيرا…"، فضحكت ضحكة استهزاء وقلت له: "إنه من الإخوان"؛ يعني أنه لا يستحق أن يقرأ له، فكلمة الإخوان لوحدها كافية لبصم الشخص بالخروج عن المنهج. (لكني في النهاية قررت شراء الكتاب لأتعرف على ما يقوله "المبتدع" من أجل الحذر).
  

يجب أن نعامل التاريخ كتاريخ، نخطئ من أخطأ ونصوب من أصاب، لا أن نلتمس العذر لهذا ونهجم على هذا.. أما المعارك فينبغي أن يحكمها قانون الأولوية، فأولوية الأمة الآن أن تحارب الاستخراب للأرض والعقول، لا أن تحارب السبحة

المعركة الثالثة: التي يخوضها الفكر السلفي، وأيضا تحت تضخم مفهوم البدعة، هي المعركة ضد المتصوفة، بوصفهم مبتدعين قبوريين يقدسون الموتى. طبعا فالسلفي العادي لا يميز بين أنواع التصوف؛ السني منه، والطرقي، والفلسفي، ولا يكلف نفسه عناء القراءة لرموز هذا التيار، فبمجرد أن ينعت شيخ ما رمزا ما بأنه صوفي، فهذا يعني أنه مبتدع منحرف. فأغلب السلفية ينعتون ابن عربي مثلا "بالزنديق"، لكن أغلبهم أيضا لم يقرأ لابن عربي..!

   
الملاحظ في المعارك الثلاث الكبرى، التي يخوضها الفكر السلفي السعودي أنها معارك داخلية، لا معارك خارجية، أي معارك مع تيارات وفرق داخل الإسلام ومنطلقاتها ومرجعياتها إسلامية. وبوسع الباحث أن يقارن بين التراث الذي راكمه التيار السلفي، جراء خوضه للمعارك الثلاث، مع التراث الذي راكمه الفكر السلفي في معاركه مع العلمانية، والتغريب، والإلحاد، والعولمة، وكل الأفكار القادمة من الغرب.
  
هذا الحجر على العقل الإسلامي، وخصوصا عقول الشباب، غالبا ما يأتي بردات فعل معكوسة تماما، فالسلفي إذا ما استفاق بعد أن يصدم، فإنه غالبا ما يغير جلده كليا، ليصبح حداثيا، أو عقلانيا، أو ملحدا، أو عولميا، وقليل منهم من يصير إلى التوازن المنشود، الذي ينبغي أن تربى عليه الأجيال حتى لا تصدم فتتخلى عن هويتها وتتنكر للتاريخ والتراث .
   
فالهدف مما سبق ليس ازدراء المذهب السلفي، وإنما تسليط الضوء على واقع فكر لا نريده، وعلى منهج تبسيطي يسهل توظيفه، وعلى عقلية قائمة على مثلث مغلق.. فالأصل في التعاطي مع تراث الأمة أن يتم الكيل بمكيال واحد، فالأصل الجامع لكل تيارات الأمة وفرقها أنها تستقي من معين واحد، والكل في استقائه أخطأ وأصاب، فلنأخذ الصواب الذي يفيدنا في عصرنا، ولندع الصواب الذي أفاد عصره، ولنستفد من الخطأ؛ لا لنكرره بل لنتجنبه حتى لا نصل إلى نتائجه. فالأمة الآن بحاجة إلى الاستفادة من المعتزلة، والأشاعرة، والماتردية، والصوفية، كما هي في حاجة إلى الاستفادة من ابن تيمية وابن القيم، ففي كل الفرق الإسلامية -قديما وحديثا- هناك جانب مشرق علينا أن نستلهمه. كما يجب أن نعامل التاريخ كتاريخ، نخطئ من أخطأ ونصوب من أصاب، لا أن نلتمس العذر لهذا ونهجم على هذا.. أما المعارك فينبغي أن يحكمها قانون الأولوية، فأولوية الأمة الآن أن تحارب الاستخراب للأرض والعقول، لا أن تحارب السبحة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.