شعار قسم مدونات

اختر طريقك وقل كلمتك

blogs كتابة

تكونُ كلمةُ الحق غصّةً في قلبِ صاحبها حتى تخرجَ من حلقِه، فإنْ خرجتْ استقرّتْ، ووجدتْ متّسعًا لها بين القلوبِ الحرة، ومقعدًا في الصدور الأبيّة، ومنفذًا للعقولِ الرّزينة. ولأنّ الكلمة لا تُحتَكر ولا تُصادَر ولا تختفي ولا يزولُ أثرُها، وجدَ بعضُنا في الكتابة وسيلةً للتعبير عن كلّ ما يدورُ حولَه، فطالما حُرِمنا نعمة الاحتجاج، وثقافةَ الاعتراض (بلا) ضدّ كلّ حاكمٍ وظالم، فمالنا سِوى الكتابة ملاذًا ومُتنّفسًا، وطريقًا نُنفِقُ فيه كلّ طاقتِنا من اليأس، حتى لو كان السبيل لذلك، جروحًا يُعاد نكئُ قروحِها بالرصاص.

 

ولأنّ المعاني تضيقُ كلّما حُشِرت في الزاوية، فتقاوم وتقاوم لتخرجَ بسلاح الكلمات تذودُ عن بقايا الحرف المتآكل تحتَ وطأة العبودية، نقفُ هنا لنتشبث بأولى وآخر المحاولات للصمود، لنعرّي أمام الجميع صمتَهم، ولنحملَ خذلانَهم في قلوبنا، رسائل هزائم وخيبات نذكرهم بها دائما كلّما نفذ احتياطُنا من الأمل، علّ دهشتنا تعود وأفكارنا تتدفق.

 

ولأنّ الحرية كلمةٌ يمشي أصحابُها على قدمين من خشب، فهم إمّا يحترقونَ أو يُقطّعون أو يتحولون لأعوادِ ثقاب، كان للشّجرة شرف النمو من جديد، كرمزٍ للحياة، لذا لا عجبَ إن كان جلاّدك فأسًا من خشبٍ أيضا، فيحدثُ أن يكون قاتلك من طينتك، وبيئتك، متخفيّا بين أهلك وعشيرتك، يصافحك بيدٍ ويطعنكَ بأخرى تنزفُ دمك، مرتديا ابتسامةً صفراء، يخلعُها كما يخلعُ المنافق كلّ يومٍ وجهَه الجديد.

 

قل كلمتك.. وامشِ، هي دعوةٌ لكلّ حرّ أبى أن يُختزَل صوتُه في دعاءٍ لملكٍ أو حاكم، أو أنْ يحني ظهرَه كي يصعد عليه المزيّفون، أو أنْ يعقدَ جبينَه بِلاءاتِ الخروج على الحاكم، وهي دعوةٌ لكلّ من تخنقُه الأجوبة لأسئلةٍ يعرفها مُسبَقا فيختبئ من خوفِه خلفَها، حتى تقتربَ منه فتكادُ تعصر روحه بالحقيقة، فينتفضُ بقدميه محاولا النجاة، ولا ينجو.

 

نحن لا يقتلنا التقطيع أو الصّلب، أو الاتّهام بالارتزاق، بل يقتلنا الصمت، وتخنقُنا الصدمة، ويكسرنا النظر إلى الأسفل. وتلتهمنا الكلمات التي لا نقولها

قل كلمتك.. وامشِ، هي رسالةٌ لكلّ من كانت مشاعرُه أكبرَ من كلماته، وقدرتُه على البوح أضعف من حروفه، وتشبّثُه بأمل التغيير أعمق من مهارتِه في الغوص ببحارها، ولمن كان مُسجّى على سريره بثوبِ الخنوع، يجرّب أن يقاوم الاحتضار بفاهٍ مفتوح، ويدٍ لا تُجيد سوى التصفيق، ورأسٍ يتحرّكُ موافقا للأسفل، وهي صرخةٌ لكلّ من حوّلَهُ خوفُه لشبحٍ بصورة وهمية، يظهرُ في الظلام ليحومَ ثم يطفو مع النهار على سطحِ الصمت.

 

فالخيبة كلّ الخيبة أن تكون مُطبّلا فتعبرَ أمامك كلّ الوجوهِ التي شُوّهت، وكلّ الابتساماتِ التي سُجنَت، وكلّ الأقلام التي صُودرت، وكلّ الأجسادِ التي قُطّعتْ فتجلس وحدك تعدُّ مئات القلوب الحمراء التي تؤيدك حبًّا أو خوفا، فلا تجدُ من بينهم إلاّ ضميركَ وهو ينشُرك جيئةً وذهابا، فتقاومُ بمشقّة مَن لفرطِ ما أعياهُ الشُّعور فقدَهْ، ولشدّة ما بنى سورا شاهقًا حول عقله، فجمّدَهْ، والعار كلّ العار، لمن نام على جنبِه مطمئنا لحاله، وقد أدار ظهره لامباليا، معتقدًا أنّ ثِقْلَ الكلمة لن يخنقَه، وصدى الحق لن يُصيبه بالصّمم،  فينكبُّ بعد فوات الأوان على عقبيْه كسيرًا حسيرًا.

 

هي لك، دعوة أو رسالة أو صرخة، فإن شئتَ التقطْها وإنْ شئتَ تعقّبْ خطواتها، وإنْ شئتَ دُسْ عليها بأزرار الحذف، وإيّاك أن تترك دليلا وراءك، فالجبانُ يأكله وَهْمُه، وتحاصرهُ سوداويّتُه ويشتّتهُ خوفُه. نحن لا نعرفُ لحاكمٍ أو وليّ أمرٍ أو شيخٍ تقديسًا، ولا نسلكُ طريق التطبيل، ولا يُخيفنا رئيسٌ على كرسيٍّ هشّ، ولا رجُل أمنٍ بعصاه الغليظة، ولا مُخبِر بنظارةٍ سوداء ودفترٍ مليءٍ بالأسماء. نحن لا يقتلنا التقطيع أو الصّلب، أو الاتّهام بالارتزاق، بل يقتلنا الصمت، وتخنقُنا الصدمة، ويكسرنا النظر إلى الأسفل. وتلتهمنا الكلمات التي لا نقولها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.