شعار قسم مدونات

العلم في الغربة وطن.. والجهل في الوطن غربة!

blogs مكتبة إسلامية

بعد أن اصطدمت بواقع أن العمل الحكومي في أغلبه لا يشجع على التكوين والتطوير المستمر، بل قد يقف أحيانا في وجه أي محاولة للتطور أو تعلم شيء جديد.. وبعد أن أيقنت أن فرص التطور المستمر المثمر داخل منظومة العمل في الإدارة، والذي لا يتمثل فقط في الترقي في المناصب وزيادة تعويضات التنقل، أمر شبه مستحيل.. وبعد محاولات عديدة للتأقلم مع الوضع والتي باءت بالفشل رغم مرور السنين.. وبعد معاينتي لعدم تحقق شروط البحث العلمي وأدواته في غالبية أعرق الجامعات وأكبرها في بلدي.. قررت أن الدراسة خارج الوطن أمر لا مفر منه إن أنا أردت أن أستمر في الإنتاج والعطاء في المجال الذي أحبه وأعشقه.

لكن محيطي ومجتمعي كان له رأي آخر.. فما كان يجب أن أفكر فيه أولا بنظرهم، هو أن أدرك السنة التي ينادي بها المجتمع.. زوج ووظيفة قارة وسيارة وشقة بأقساط شهرية مدى الحياة.. ثم يلاحقونني كي أنجب الأول والثاني وأزاوجهم ذكرانا وإناثا.. ولاحقا يطاردونني حتى أغرق نفسي قروضا لألمع حياتي وأجعلها تبدو براقة سعيدة حتى لو كنت أتعس أهل الأرض.. بكل بساطة لأن السعادة والحياة الهانئة هي ما يقرره المجتمع ويراه صوابا.. وليس ما نريده نحن ويجعل من أيامنا كلها أياما ذات معنى ونحمد الله على كل يوم إضافي نعيشه.. لا أن نعيش حياة تدور في حلقة مفرغة دون أي رسالة أو هدف.

أما مدرائي في العمل فقد شجعوني تشجيعا لا نظير له، بالتجاهل والسخرية ونعتهم إياي بالخروج عن جادة الصواب لمجرد تفكيري في متابعة الدراسة في مجال تخصصي، بالرغم من أن أقصى ما طلبته كان عطلة بدون أجر حتى يتسنى لي تحقيق هدفي والعودة بشيء جديد عساه يدفع بالوحدة التي أشغلها ولو قليلا إلى الأمام. بالرغم من كل الضغوط الخارجية لكنني استخرت الله عز وجل وقررت في لحظة حاسمة أن أترك كل شيء ورائي طلبا للعلم.. وعزمت أمري أن أمضي في سبيل ما أؤمن به وأتبع رسالتي في هاته الحياة متسلحة بشيء واحد وهو يقيني في الذي فطرني ووضع في داخلي هاته الرغبة التي لا يمكنني بأي حال تجاهلها. كان لهذا القرار عواقب تحملتها بالرغم من أن العديدين نعتوني بالمجنونة وحذروني من أنني سأندم لاحقا بكل تأكيد.. قد يكونون على حق، وأكون ربما خسرت الشيء الكثير دون أن أشعر.. لكنني أحس وكأنني كسبت أضعاف ما خسرته بالرغم من أن الرحلة لازالت في بدايتها.

خسرت دفئ الأسرة ورفقة الأحباب والخلان.. لكنني اكتشفت أن وجود الأحبة معنا حالة ذهنية ووجدانية محضة.. فمتى ارتبطت الأرواح والتحمت لا يهم إن كنا سويا أو لم نكن

لقد خسرت الوظيفة القارة للأبد والسيارة والراتب الشهري الذي يشعر أغلب الناس بالأمان، ويجعلهم يخشون تغيير مراكزهم حتى لو كانت لا تلبي تطلعاتهم.. لكنني كسبت طموحي وتقديري لما أفعله كل يوم. خسرت أيضا سنين عديدة من العمل أو ما يطلقون عليه "الأقدمية".. لكنني كسبت لغة جديدة أتكلم بها دون عناء.. وتجارب غنية.. وجلسات في حضرة علماء كبار في المجال الذي أحبه وأعشقه. كما أنني خسرت ربما فرصتي لأشتغل في القطاع العمومي من جديد.. لكنني كسبت قناعة لا نظير لها بأن رزقي في السماء ولا يهمني من أي الأبواب يأتي طالما أن المفاتيح بيد خالقي ورازقي.

خسرت العديد من المعارف والزملاء الذين كنت أظن أنهم على مودة ووئام معي.. لكنني كسبت بالمقابل أصدقاء حقيقيين ورائعين جدد من جميع الأجناس والبلدان. خسرت دفئ الأسرة ورفقة الأحباب والخلان.. لكنني اكتشفت أن وجود الأحبة معنا حالة ذهنية ووجدانية محضة.. فمتى ارتبطت الأرواح والتحمت لا يهم إن كنا سويا أو لم نكن.. ومتى تباعدت وتنافرت.. نشعر بالوحدة ولو كنا جنبا إلى جنب ولا نفترق أبدا.

خسرت أيضا قناعتي بأن إخلاصي في عملي وحبي له، يمكن أن يشفع لي عند رؤسائي في العمل ويجعلهم يؤمنون بطموحاتي ويشجعونني لأكون شخصا أفضل وذو كفاءة عالية.. لكنني بالمقابل التقيت بمن هم خير خارج بلدي.. لقد حضنوني وقدروني وعلموني.. وأعادوا إلي ثقتي في نفسي وفي قدراتي التي كدت أدفنها إلى الأبد في ظل منظومة عمل تعتمد على نفذ فقط، ولا تفكر ولا تناقش.. فلماذا أتقاضى مرتب مهندسة إذا؟! أليس وظيفتي هي التفكير وإيجاد الحلول للإشكاليات؟!

لقد خسرت كثيرا من وجهة نظرهم.. لكنني كسبت كثيرا من وجهة نظري.. كل ما كنت أريده وأسعى إليه هو أن أهاجر لمدة محدودة طلبا للعلم والمعرفة لأساهم في تقدم بلدي وتطوره.. لكنني وجدت نفسي أهاجر لأجل غير مسمى هربا من الجهل والظلم والقهر والاحتقار للطموحات في كل تجلياته.. وأصبح لسان حالي كلما قارنت بين معاملة أساتذتي ومدراء أرقى الشركات في مجال دراستي لي في المهجر وبين معاملتهم لي في بلدي الحبيب.. حقا إن العلم في الغربة وطن وإن الجهل في الوطن غربة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.