شعار قسم مدونات

مدونة التغيير.. الجمود النشط

blogs عمل

هذه السلسلة من المقالات سوف تتناول أفكارا جادة حول أهمية التغيير في حياتنا، ليس فقط على المستوى الشخصي أو الاجتماعي بل على مستوى المؤسسات والجماعات والهيئات والشركات الكبرى والدول والحضارات. انظر إلى تعاقب الليل والنهار، الشمس والقمر، الشتاء والصيف، الجمعة في كل أسبوع، رمضان في كل عام، لماذا كل هذا التغيير على مدار اليوم والليلة، والشهور والسنوات؟ لأنه بدون حدوث التغيير لتجمجت مسيرة الحياة ولنتخيل مثلا أن النهار أو الليل أصبح سرمدا؟ كيف ستكون الحياة نهارا متواصلا أو ليلا مستمرا؟

 

أنظر إلى نفسك كيف بدأت من سلالة من طين ثم نطفة في قرار مكين ثم علقة ثم مضغة وخلقا كاملا، ثم طفلا وصبيا وشابا ورجلا وكهلا؟ تخيل لو بقيت عمرك طفلا أو تصور أنك ولدت كهلا أو بقيت صبيا مدى الحياة؟ التغيير جزء من ديناميكية الأحياء والأحياء فقط هم من يشعرون بالتغيير وأهميته، أما الموتى فلا يشعرون. التغيير يعني استمرارية الحياة، والجمود يعني التوقف أو الموت أو الجري في المكان، محلك سر، والحقيقة أنه ليس محلك سر بل للخلف در.

 

أتابع قصص الحضارات التي سادت ثم بادت، أو تلك المنتجات التي كانت أعلى الماركات والعلامات التجارية في زمانها وأسأل نفسي أين ذهبت؟ وكيف ذهبت؟ هل ذهبت بفعل الغير؟ أم بفعل التدمير الذاتي من الإدارة أو الزعامة أو القيادات؟ هل تذكر الهاتف المحمول (نوكيا)؟ ما الذي جرى لههذ الماركة العملاقة ولماذا حل تلفون آيفون وسامسونج مكانها؟ هل تذكر آلة التصوير الشهيرة ماركة كوداك؟ هل مازلت على قيد الحياة أم تصارع البقاء؟ هل تذكر آلة إرسال الرسائل المسماة بالفاكس؟ هل تحتاجه البشرية اليوم؟

 

تقع الشركات والتنظيمات والمؤسسات الكبرى فيما يعرفه صاحب الدراسة بـ(الجمود النشط) وهو أن المؤسسات والمنظمات والهيئات التي حققت نجاحا على مدار عقود قد تسوء نتائجها في لحظة من الزمن وهي لحظة جمود

هل تذكر السيارة بونتياك؟ أو حتى السيارة الهامر الضخمة؟ هل تذكر جهاز التسجيل الضخم سوني أو ناشيونال أو سانيو؟ ما الذي حل مكانه؟ هل تذكر السيارة الألمانية الشبابية ماركة فولكس فاجن المسماة بالخنفساء؟ هل تراها في شوارع برلين أو نيويورك أم القاهرة؟ هل تذكر الراديو الترانزيستور الصغير الذي كنا نحمله لنسمع نشرة الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية وصوت المذيع يقول هنا لندن؟ كيف تسمع أو تشاهد قنوات واذاعات العالم اليوم؟

 

ما يسري على المنتجات والماركات يسري وبقوة على الحضارات والأمم السابقة والأفكار والأيديولوجيات، لا فرق كبير ولا استثناءات ضخمة. البعض يعتبر نفسه بعيدا عن السقوط، ومحصن ضد الإنهيار والضياع ولكن ما سنعرضه في هذا المقال سيبين لك عزيزي القارئ أن السقوط والتراجع يكون لأسباب قد تكون أبعد عما يتم تسويقه من نظرية المؤامرة التي لا نستبعدها، أو التنافسية الشديدة التي يعرفها الجميع.. إليكم القصة.

 

القصة

قبل عشرين عاما تقريبا وفي عددها الصادر في أغسطس – يوليو 1999 نشرت مجلة هارفارد بزنيس ريفيو Harvard Business Review دراسة أجراها دونالد سول Donald Sull دراسة بعنوان لماذا تسوء أحوال الشركات الكبرى؟ "?Why Big Companies Go Bad". هذه الدراسة هي الأولى من نوعها والتي تشرح بعد دراسة أوضاع اثنتين من كبريات الشركات في كل من اليابان وبريطانيا وهما شركة فايرستون Firestone لإطارات السيارات في اليابان وشركة لصناعة الملابس البريطانية المتخصصة في ملابس السيدات والمعروفة باسم صاحبتها لورا آشلي Laura Ashly، كلتا الشركتين انتهتا إلى مصير لا يتناسب أبدا مع ما حققتاه من شهرة وأرباح ومكانة في الأسواق جعلت من كل منهما اسما وعلامة تجارية يشار إليها بالبنان.

صعود وهبوط

يقول الكاتب إن الشركة الأولى (فايرستون) التي بلغ أوج شهرتها في الستينيات من القرن الماضي لم تدرك أن هناك منافسين لديهم أفكارا من شأنها أن تكون منافسا قويا لما تنتجه من الإطارات التي تنتجها، وبالتالي فالثقة الزائدة دفعت بالقيادة إلى التمسك بنفس المواقف على اعتبار أن عوامل النجاح لا تزال متوفرة ولم لا فالقيادة كما هي، ونسيت إدارة الشركة وقيادتها أن الظروف المحيطة قد تغيرت وبالتالي فإن عوامل النجاح السابقة لن تكون مناسبة في بيئة جديدة ومختلفة، وكل ما على القيادة أو الادارة هو تفهم الموقف وبالتالي التحرك واتخاذ القرارات الملائمة للبيئة الجديدة . الذي حدث أن شركة أخرى (ميتشلان) الفرنسية أنتجت نوعا جديدا من الإطارات أكثر أمنا وأطول عمرا تحدت به (فايرستون)، وبدلا من تكون إدارة فايرستون عند مستوى التحدي مضت في غرورها وراهنت على أن منتجها الذي يحمل الرقم واحد سوف يبقى في مكانه.

 

تمسكت إدارة فايرستون بقرارها في إنتاج المزيد من الإطارات القديمة وهو القرار الذي كلفها 200 مليون دولار نتيجة كلفة الانتاج والتخزين والإستعادة أو السحب من السوق. كان الوقت قد مصى قبل أن تتراجع ادارة الشركة عن قرارها ولكنها جاءت متأخرة فخسرت خسارة رهيبة، وبعد صراع استمر تسع سنوات أنتهت الشركة وبيعت بعد مفاوضات شاقة لشركة يابانية أخرى هي شركة (بريدجستون).

 

أما الشركة الثانية (لورا آشلي) فهي شركة عائلية لإنتاج ملابس السيدات كانت تديرها لاورا مع زوجها برنارد، فقد بدأت بورشة صغيرة في شقتها وما لبثت أن توسعت لتصبح شركة وسلسلة تضم 500 من منافذ البيع المنتشرة عبر البلاد. استهدفت آشلي المرأة القادمة من الريف بملابس الحلم الرومانسي وقيم المجتمع المتمثلة في مواجهة المخدرات والجنس وانتشار الملابس القصيرة للسيدات القادمات من الريف وقد لاقت رواجا كبيرا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ثم وقعت الواقعة.. في منتصف الثمانينيات ومع دخول مزيد من النساء إلى سوق العمل بكثافة أصبح هناك تطلع ورغبة في انتاج ملابس أكثر حداثة وملاءمة لسوق العمل، بدلا من تلك الملابس التي بأت توصف بأنها ملابس تصلح للسيدات العاملات في مجال حلب الأبقار في القرن التاسع عشر.

 

إنه الجمود النشط، حيث تشعر وأنت داخل هذه المؤسسات أنها تتحرك ونشطة ولكن الحقيقة أنها تتحرك داخل صندوق جامد وضيق ومحدود للغاية، بمقدوري أن اسميه التحرك أو الجري في المكان
إنه الجمود النشط، حيث تشعر وأنت داخل هذه المؤسسات أنها تتحرك ونشطة ولكن الحقيقة أنها تتحرك داخل صندوق جامد وضيق ومحدود للغاية، بمقدوري أن اسميه التحرك أو الجري في المكان
 

لم تنتبه إدارة شركة آشلي للمتغيرات على صعيد طموح ورغبة المرأة ولا على صعيد طريقة إدارة العمل من حيث تقليل الكلفة وفتح أسواق خارجية. لقد كبرت الشركة ونمت وتحولت إلى عملاق لم يعرف كنهه هلى هو دار للأزياء أو مصانع انتاج الملابس أم تجارة تجزئة لذا حين غزت منتجات المنافسين الأسواق ورغم محاولة الإدارة حل مشكلتها عبر خطط جديدة إلأ أن كل المحاولات باءت يالفشل ليس بسبب عدم التحرك ومحاولة الإصلاح ولكنها محاولات دائما متأخرة ودون المطلوب.

 

ما الذي جرى؟

تقع الشركات والتنظيمات والمؤسسات الكبرى فيما يعرفه صاحب الدراسة بـ(الجمود النشط Active inertia) وهو أن المؤسسات والمنظمات والهيئات التي حققت نجاحا على مدار عقود قد تسوء نتائجها في لحظة من الزمن وهي لحظة جمود تصيب الإدارة أو القيادة وتجعلها دائما متمسكة بالأسباب القديمة التي أدت إلى النجاح في السابق. تعتقد إدارة وقيادات هذه الشركات والمؤسسات أنها قد اتخذت ما يلزم من إجراءات ولكنها لم تنجح لأسباب خارجة عن إرادتها بينما الحقيقة أن هذه القيادات والإدارات قد تتخذ القرارات الصحيحة في التوقيت المتأخر، وهو أمر مساو لاتخاذ قرارات غير صحيحة في التوقيت المناسب.

 

السؤال الحيوي؟

هل تعلم قيادات هذه الشركات والمؤسسات بحقيقة التحديات التي تواجهها أو قد تواجهها؟ أم انها لا تعلم وأخذت على حين غرة؟ الإجابة الغريبة هي أن معظم المؤسسات والشركات الناجحة على علم ودراية بالتحديات والمشكلات الآنية أو المستقبلية ولكن العقدة أو المشكلة في تصورها للحلول وفي طريقة حل المشكلات ومواجهة العقبات. هذه هي أزمتنا اليوم.. لا تنقص معظم مؤسسات العمل اليوم لا الاستراتيجيات الفاعلة ولا التاريخ المليء بالإنجاز، ولا ينقصها الكوادر البشرية ولكن ينقصها طريقة التفكير في حتمية تغيير طريقة نظرتها وطريقة تعاملها مع الأزمات، إذ أن الطريقة التي تعاملت بها مع أزمات متكررة وربما متشابهة هي نفس الطريقة التي لا تعترف بالمتغيرات البيئية من حيث الزمان والمكان والثقافة والمعلومات والاتصال.

 

لا تكمن المشكلة في العجز أو الشلل لا بل المسألة أن معظم هذه المؤسسات تدرك حقيقة الورطة، وهي لا تقف بدون تحرك بل تتحرك وفق طريقة تفكير متجمدة وتنتج أفكارا غير صالحة في توقيتات خاطئة. إنه الجمود النشط، حيث تشعر وأنت داخل هذه المؤسسات أنها تتحرك ونشطة ولكن الحقيقة أنها تتحرك داخل صندوق جامد وضيق ومحدود للغاية، بمقدوري أن اسميه التحرك أو الجري في المكان.. نحن بخير ونتحرك ونعمل.. هذا كلام سليم، ولكن ماذا تنتج الحركة في المكان.. اللهم لا شيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.