شعار قسم مدونات

التخطيط والإدارة في سورة العصر!

blogs العصر

تصدعنا سورة العصر بمطلعها الواصب ذي الكلمات الخمس (وَالْعَصْرإِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*) وحين نتدبر معنى ذلك القسم وذلك التعقيب الذي يتجاوز حدود الجِناس والقافية سنجد أنه امتدّ إلى آفاقٍ تحيطُ بكلِّ ما في الحياة من قصصٍ وأحداث وعِبَر. نشارفُ كلمة العصر فنرى أن لها عدة معانٍ عند المفسرين منها معنيان رئيسيان: فهي العصر الذي يعني الدهر عموماً أو دهر الإنسان أي حياته وجمعها العصور عند ابن عباس فيما أخرج ابن المنذر وهي أيضاً: وقت العصر بين زوال الشمس إلى المغيب عند قتادة والحسن.

وحين نتأمّل معنى العصر حين يكون الحياة من بدايتها إلى نهايتها أو جزءاً من يوم من أيامها، سنجد أن للحياة بكاملها أو لليوم بمفرده بدايةً ونهايةً ونتيجةً وهو ما يتطابقُ تماماً مع تعريف المشروع الذي وضعه علم إدارة المشاريع بعد أن تطوّر وتفتّقَ عن المفاهيم الـمُدركة بالفطرة الحكيمة، فالمشروع وفق تعريفه الأساسيّ هو (مسعىً مؤقت يهدف لتحقيق منتجِ أو خدمة أو نتيجة فريدة غير مسبوقة)، وهناك فرق جوهريّ بين المشروع Project وبين عملية الإنتاج Operation فالعمليات التكرارية التي يقوم بها خط الإنتاج مثلاً هي مجرد عمليةٍ لا مشروع أما تطويرُ الخطّ بكامله فهو ما يمكن اعتباره مشروعاً.

نظرية تكمان

على مرّ الأزمنة وتوالي المشاريع كانت هناك حقيقة جليّةٌ ومسكوتٌ عنها يعرفُها كل العاملين في إدارة المشروعات وما فتئت تتكرّرُ بشكلٍ لازم، فالعمل في كل مشروع يبدأ دائماً متباطئاً ومتعثراً مليئاً بالمشاكل ولكنْ حين يمرُّ الوقت ويلوحُ موعدُ التسليم ترتفع الوتيرة عالياً كما هو الأمر تماماً في يومك الذي يكون فيه وقت العصر بمثابة النداء الأخير قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة، ويبدو ذلك متطابقاً مع نظرية تكمان Tuckman Theory والتي تفيد أن فريق العمل في أيّ مشروع يمرّ في خمس مراحل أساسيّة: المرحلة الأولى التشكيل Forming والتي يتكون فيها فريق العمل؛ والمرحلة الثانية مرحلة الأعاصير Storming والتي تطفو فيها المشكلات الشخصية بين أفراد الفريق؛ والمرحلة الثالثة التنظيم Norming والتي ويظهر دور مدير المشروع القوي المنصف في اتباع ووضع أسس مهنيّة وأخلاقية للعمل يحلّ بها تلك المشاكل؛ أما المرحلة الرابعة قبل الأخيرة فهي مرحلة الإنتاج Performing والتي يتمّ فيها الإنتاج الفعلي، والمرحلة الأخيرة الانفضاض Adjourning.

الأوقات الاحتياطية (الفواضل)
حين نلتفت إلى الكلمات الخمس المعجزة السابقة لسورة العصر سنبصر كيف قد أعطتنا زبدةَ المعنى وجوهرَ الحكمةِ في قالبٍ قرآنيّ مختصر وأسبغت عليه سحراً بلاغياً وموسيقياً

من أجل هذا أيضاً ظهر مفهوم الأوقات الاحتياطية Buffers أي الفواضل، حيث يقوم مخطِّطُ المشروع بضغطِ أوقاتِ أنشطتِه إلى حدّها الأقصى الحرج ثم يَترك وقتاً احتياطياً للطوارئ، وهناك من يرى أن يتمّ توزيع الأوقات الاحتياطية على مراحل بناء على محطّات، وهناك من يرى أن يتمّ وضعها قبل نهاية المشروع فقط، لكنّ قانون باركنسون Parkinson’s law الذي مفادُه أن ّكلّ الأعمال التي نضعُ لها موعدَ إنجاز محدد فإنها لا بدّ ستتطاول وتمتدّ زمنياً لتملأ الوقت إلى أن تصل إلى موعدها النهائي ويحدث ذلك دائماً حتى لو كان بالإمكان إنجازُها بسهولة قبل موعدها، وكذلك قوانين مورفي الشهيرة Murphy’s Law والذي يفيدُ أحدها أنه إذا كان هناك مكروه سيقع فإنه لابدّ واقع، وتأسيساً على هذين القانونين كان الرأي الأصوب المعمول به أن يتمّ وضعُ الوقت الاحتياطيّ قبلَ نهاية المشروع وهو ما تضعه إدارة المشروع وغالباً ما تخفيه عن أفراد الفريق ليكون الوقت النهائيّ هو الفرصة الأخيرة كما هو وقت العصر في يومك وفي عصر دهرك.

قانون باريتو

وقد يتساءل البعض هل يمكن تعويض ما فات بعد أنْ بدأت الشمس بالميل إلى الغروب في ذلك الجزء الذي لا يمثل سوى عشرين بالمئة من وقت النهار بكامله، سنجد قانون باريتو الشيّق Paretto law الذي يشير إلى الأمر ذاته وفق قاعدة الثمانين/ عشرين، حيث يقول باريتو إن عشرين بالمئة من الأسباب تؤدي إلى ثمانين بالمئة من النتائج، ففي المبيعات مثلاً فإن 20 بالمئة من الزبائن هم من يحققون لك 80 بالمئة من الأرباح، وفي الاتصالات فإن 20 بالمئة ممن جهات الاتصال لديك تقضي معَهم 80 بالمئة من وقت مكالماتك، وفي النفقات فإنك تستطيع بـِ 20 بالمئة من دخلك أن تشتري 80 بالمئة من احتياجاتك، والأهمّ من كل ذلك أنك خلال 20 بالمئة من وقتك تستطيعُ أن تنهي 80 بالمئة من مهامِك المتكاثرة، ولذلك لا تقطع حبل الأمل الذي تفتحه لنا هذه الآية لتقول لنا إنك حتى لو لم تفعل شيئاً فإن فرصتك ما زالت سانحة بين وقت العصر وآخر النهار لتتلافى ما فاتك وتنهي ثمانين بالمئة مما يتوجّب عليك فعله.

تلك القوانين السابقة في أغلبها لا برهان رياضي لها لكن الممارساتِ والتجارب الواقعية وتكرارَ المشاهد والأحداث قد أثبتتها، ثم تشعبت لاحقاً بتأطيرات رقمية ونظريات مسهبة في التحليل والوصف، لكن حين نلتفت إلى الكلمات الخمس المعجزة السابقة لسورة العصر سنبصر كيف قد أعطتنا زبدةَ المعنى وجوهرَ الحكمةِ في قالبٍ قرآنيّ مختصر وأسبغت عليه سحراً بلاغياً وموسيقياً، وكيف عبرت كلمة العصر مع جواب قسمها الذي جعل الانسان في خسر عن كل ذلك وأحاطت به والتي وصفها الامام الشافعي فقال لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.