قديمًا قالوا: "كُن عصَاميًّا ولا تكُن عِظاميًّا"، أي افخر بنفسك واعتمد عليها في بناء صُروح المجد ولا يغُرَنَّك أمجاد آبائك وأجدادك، ولا تتَّكِل على ما تركوه لك من عزٍّ مؤثّل وفخرٍ جلي، فهو كالثّوب المستعار، لا يقيك من حرّ ولا قر. فهناك فرقٌ كبير بين العصاميِّ الذي يبني نفسَه بنفْسِه، والعظاميِّ الذي يَفتخرُ بعظام آبائه وأجداده والتي ربَّما تكون قد نَخِرت. ويعودُ أصلُ هذا المثل إلى "عِصام بن شُهير"، حاجبِ النُّعمان بنِ المنذر، الذي بلغ عظيم الشأنِ في البلاغة والفصاحة، فقال فيه النابغةُ الذبيانيُّ:
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا… وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا
وَجَعَلَتْهُ مَلِكًا هُمَامَا… حتّى علاَ وجَاوزَ الأقوامَا
ومن هُنا تداول النّاس المُصطلح ليُعبّروا به عن كلّ كادِحٍ، ساعٍ في سبيل تنمية ذاته بذاته، دون أن يعتمد في مسيرته على حسبٍ أو نسب.
تُعتبر قصص نجاح العظماء من رجال الأعمال العصاميّين عنصرًا مهمًّا في تعليم الآخرين وإلهامهم. لذلك ينبغي دراسة سيرهم التي لا تلبث تُذكّرنا بأنّ العزيمة الصّادقة والتعلم المستمر والمخاطرة والمثابرة… كلُّها إن اجتمعت في الشخص كانت سبيلهُ الوحيد لقهر الظُّروف مهما كانت صعبة وتحقيق نجاح لا يُصدَّق. وممّا لا شكّ فيه، أنّهُ يوجد الكثير من رجال الأعمال العصاميّين في العصر الحديث (ولن أذكر من القدماء أحدًا حتّى لا نقع في فخّ "العظاميّة" والتغنّي بأمجاد السّلف أيضًا)، وأذكُر منهم: العراقي مناف سلمان الرحال، مايكل ديل، أجاثا كريستي، جابرييل غارسيا، جون كوليسون، ساندر بيتشاي، كيران مازومدار، طوماس ليبتون.
هؤلاء جميعًا قد غيّروا مجرى التّاريخ بطريقةٍ ما، والعجيب أنّ منهم من لم يمتلك شهادة جامعيّة أصلاً! فهؤلاء قد صنعت منهم توجهاتهم ومهاراتهم وصفاتهم الشخصيّة وإصرارهم على النجاح والتزامهم بأهدافهم، ما هم عليه اليوم، فليس الحظُّ من ساعدهم لبلوغِ ما بلغُوه، مع أنك لو نظرت ربّما إلى بداياتهم وأحوالهم المتواضعة، لفهمت أن سر نجاحهم وثرائهم، تكمن خلفه أسباب منطقيّة وواقعيّة.
العِصاميّون ينظرون إلى أهدافهم نظرة احترام وإيمان، ويأخذون أمر تحقيقها بجدية تامّة لا مساومة فيها، إنهم بكل بساطة ملتزمون بما يجب عليهم في سبيل ذلك |
يختار هؤلاءِ أحلامًا كبيرة، تلك الأحلام التي تُداعب خيالاتهم وتشغل فكرهم وتُثير هممهم نحو النجاح والتفوق، إنهم يضعونها دائمًا نصب أعينهم، وهي السر الذي يبعث فيهم أقوى طاقات الإبداع والنشاط والفاعلية. ثمّ إنّ الدّافع الدّاخلي عنصرٌ مُهم في الاستمرار، فمن غير دوافع ملهمة محفزة وقوية لا يمكن لشخص أن يقاوم أسباب الفشل وأن يستمر في رحلة طويلة فيها الكثير من العقبات والتحديات التي يجب التغلب عليها، فقد تكون هذه الدوافع رغبات وطموحات مالية (كالأرصدة الضخمة والممتلكات الثمينة) وقد تكون دوافع نفسية (كتركِ أثرٍ ملموس، والتميز والتفوق الاجتماعي) وقد تكون دوافع إنسانية (كالمساهمة في الإعمال الخيرية أو دعم قضية إنسانية معينة).
طبعًا، كلُّ هذا يحتاجُ إلى تخطيطٍ جاد وعملٍ مدروس، وإن نحنُ تحدّثنا عن التّخطيط فهو دائمًا أسهل من التنفيذ العملي، لأنّ التنفيذ يتطلب ما هو أكثر من مجرد أحلام اليقظة والحديث عنها! إنّه يتطلب العمل والجدية والالتزام، فالعِصاميّون ينظرون إلى أهدافهم نظرة احترام وإيمان، ويأخذون أمر تحقيقها بجدية تامّة لا مساومة فيها، إنهم بكل بساطة ملتزمون بما يجب عليهم في سبيل ذلك. هل تعرف في محيطك من بدأ بمشروع جيد ثم ما لبث أن توقف عن العمل عليه وانتهى كل شيء؟ العِصاميّون لا يفعلون ذلك البتة، فهم قد يغيرون الطريق ويتوقفون عند مشروعٍ مُعيّن، ولكنهم أبدًا لا يتوقّفون عن السير والتقدم نحو أهدافهم الأساسية.
وإن عُدت إلى دائرة العظاميّين وقُمتُ بتوسيعها أكثر، فالحقيقة أنّك ستُلاحظ أنّ الإنسان العربيّ العادي عمومًا، سجينٌ في سجون منيعة متعددة الأصناف والأسوار. تجعلُ منه مُجتمعًا مُشبَعًا بفخر الأجداد وتعظيم السَّـلَف وتمجيد الماضي، بل حتّى وضعه في منزلة أكثر تبجيلاً من منزلةَ الحاضر… وكلها تتعاونُ وتتفاعلُ للتأثير المُركّبِ على طريقة تفكيره ثم على سلوكه وتصرّفه ونظرته إلى الأمور. وما أن يظهرَ بعضٌ من ذوي الأفكار الثورية النيّرة، العصاميّون الذين ملُّوا العيش في كنفِ الماضي، لتحرير الناس من سجونهم المركّبة، حتى يتعاون على قمعه ورفضه وإلغائه كلّ من ألِـفوا سجنهم. بل إنّ معظمهم لا يعيِ سجنـَه، أي لا يدري أنّه سجينٌ أصلاً، لأنه ولد وعاش في هذا السجنِ الكبير وقد يموتُ فيه. وفي هذا يقول الإمام جمال الدين الأفغانيّ مقولته المشهورة: “إنَّ العربيَّ… يُعجَبُ بماضيه وأسلافه… وهو في أشدِّ الغفلة عن حاضره ومستقبله“.
وكلامي هذا لا يعني عدم احترام التّراثِ وما تركه السّلف، وإنّما يجدرُ بنا دراسته دراسة واقعيّة، وأيضًا لستُ أنكر أنّ صلاحَ الآباء فيه صلاحٌ للأبناء، لأن المتأمّل في القرآن الكريم يرى أن الله تعالى حفظَ الأبناء لصلاح الأب، وذلك عندما قال في سورة الكهف: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا"، تأمّل كلمة أبوهُما وليس هُما! فأصل الصّلاح أبيهما، لكن إحدى ثماره كانت "لهُمَا"!
الحقيقة التي لا غُبار عليها، أنَّ الإلحاح في التنويه بهذا الماضي وما أورثهُ الآباءُ والأجداد، وكذا الإمعان في التـلـذُّذ بالأحلام والأمجاد، ما هو إلاّ ظاهرةً مَرَضيَّة، إذا لم نُقرِنه بالعَمل الجادّ والإبداع الشّخصي، بما فيه الكدحُ وتنمية الذّات على وجه الخصوص، فالسرّ يكمنُ في الابتكار وفي إيمان المرء بقدراته الذاتية. فعلى المرءِ التزوّد بالمعرفة اللازمة لخوض معترك الأعمال الحرّة، واكتساب المهارات بالممارسة، أو أن يكون له استعداد فطري للتفوق في ميادين معينة. فالشهادات الجامعيّة لا تُعطي سوى الشيء القليل ممّا تحتاجهُ حقًّا في الحياة. فما هي حقيقةً إلاّ رُخصة لمُمارسة مهنة ما، وليست دليلاً على قدرات أو ثقافة أو وعي الإنسان، إلاّ أنّ سباقنا المُستمر نحو شراء الألقاب العلميّة، والملايين التي تطير سنويًّا بين درجة (ماستر) و(الدكتوراه)… جميعُها دلائلٌ لا تقبلُ الشكّ أنّ واقعنا يفرضُ علينا ذلك، ببساطة هوسُنا بالمظاهر قد تجاوزنَا ألف ميلٍ وميل!
الدور اليوم عليك، وعلى ما ستحققه أنت، بل الحمل أكبر لأنه يُنتظر منك ما لا يُنتظر من غيرك. كُن من الذين يصنعون ذواتهم بعيدًا عن بهرجة الواقع وما يفرضه من ألقابٍ وأنساب، كُن من العصاميّين الذين يموتون، ويفارقون الدنيا بأجسادهم فقط، أمّا ذكرُهُم فيظلُّ مرفوعًا يُحاكي سماءَ الفضيلة والسموِّ… ومع كلّ هذا يبقى هُناك سؤالٌ عالق: متى نُركُ الفارق بين المعرفة والتّعليم.. متى؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.