وهنا تبرز الإشكالية ببنية العقد الاجتماعي الإيضاحية بين معادلة الحاكم والمحكوم، وللمفارقة قد نجد أن دوافع الترابط هي ذاتها أحياناً مسببات الانفصال، فبما أنّ العقد الاجتماعي يبحث عن إيجاد صياغة لمفهوم الحق الإنساني بإيجاد مجتمع يناسبه على أساس العدل والإنصاف، فإن اختلاف وجهات النظر والمفاهيم هي المؤسس لتفارق التيارات، فتجد مجموعة تؤمن أن سلامة المجتمع بتعدديته واختلاف مشاربه الفكرية والدينية والعرقية، بينما يذهب آخرون إلى ضرورة التماس حقوق الأقليات بإقامة مجتمعات مؤسسة لدولٍ حفاظاً على وجودهم، لتتشكل حالة ذكرها الفيلسوف البريطاني "توماس هوبز" بحالة ما يمسى "حرب الكل ضد الكل"، والهدف واضح هو الحفاظ على الذات، أيّ أن طبيعة الإنسان مبنية على الشر والأنانية.
وهذا ما يخالفه "جون لوك" الذي يرى أن الإنسان خيّر وطيب، بينما يقف "جان جاك روسو" في المنتصف حين يقول "إن الإنسان في الحالة الطبيعية ليس خيراً وليس سيئاً، إنما المجتمعات هي من تفسده"، وبذلك نكون قد رجعنا إلى الدائرة الأولى التي تقول إن المجتمعات هي من تحدد طبيعة الإنسان وتؤثر فيه وإن كان بالمنظور العام متبادل التأثير، وقد تكون الردود على نظرية العقد الاجتماعية بعضها موضوعي، وأهمها ما صرح به الفيلسوف "برتراند راسل" الذي نفى تماماً وجود العقد الاجتماعي، كون الإنسان غير مخير بين الحالة الطبيعية والدولة، وربما تُكرس مفاهيم العبودية كما قال المصري "بنيامين ثابت".
من الخطأ في العصر الحديث أن نرفض حقوق البشر وقد اعترفنا بحق من دونهم، لكن الاندفاع المُولد من شعور المظلومية وتسييسه لمصالح الدول هو من يجعل الأمر محل أهواء وآراء |
الصبغة الواحدة للمجتمع تفقده حتماً الحيوية التي تُعد جوهر التحضر والحداثة، وتزيد من مستوى الحساسية لاحقاً، هذا إذا افترضنا قبول الآخر، إن لم يكن هناك تداعيات جسام تبدأ من الوضع الاقتصادي، ما زال "جنوب السودان" الغني بالثروات يتذيل ترتيب الدول في الوضع المعيشي وحتى الإنساني، وبالرغم من الإمكانات الكبيرة لإقليم "كردستان" إلا أنّ استشراف المرحلة المقبلة غير مبشر، إذا ما أصرت دول الطوق على بدء حصار الإقليم، والأخطر من ذلك هو نمو الاحتقان من شعوب المنطقة، سواء العربية التي تُعاني من أهوال الحروب في العراق وسوريا، أو التركية والإيرانية التي تحتضن شريحة واسعة من المواطنين ذوي القومية الكردية، وهذا يؤسس إلى مرحلة لاحقة –ربما بعيدة حالياً- تتسم بالعدائية وقد لا تخلو من تصادم فكري تُجسده العلاقات الاجتماعية.
لتنتهي هذه الحقبة ببدء الهجرة إلى الوطن المنشود، وبالتالي تكون هذه المجتمعات قد خسرت مكونا مؤسسا لها، وعقدت الأمر في موطنها الوليد، ولن تترك عقد السياسة العالمية الأمر دون توظيف جيد بما يخدم مصالحهم، فقد يتسابقون للاعتراف بتكوينهم مقابل مصالح مسيسة، والنتيجة حتمية أشبه بكارثة "جنوب السودان"، وهذا ينطبق أيضاً على المجتمع الأوروبي وليس فقط الإسباني الذي سيخسر إقليم "كتالونيا"، وسيزداد الأمر تعقيداً، حينما يتم إذكاء الشعور الانفصالي على محامل عرقية ودينية، وكثيراً من المناطق مرشحة بقوة لهذا الوضع كـ "الصحراء المغربية"، وتركستان الشرقية شمال الصين.
إن معارضة الانفصال تستقي واقعيتها من المخاوف التي تلحق بالمجتمعات والشعوب، وهي بالتأكيد تبتعد عن الميول الشخصية والغيرة، فنكران حقك هو نكران وجودك، وهذا ليس محل اختلاف، فمن الخطأ في العصر الحديث أن نرفض حقوق البشر وقد اعترفنا بحق من دونهم، لكن الاندفاع المُولد من شعور المظلومية وتسيسه لمصالح الدول هو من يجعل الأمر محل أهواء وآراء، وهي تكسر شيئاً فشيئاً الروابط المبنية في المجتمعات، ولعلّ هناك من يبحث عن ردٍ واقعي بعيداً عن قوانين الفلسفة، أنّ جميع الروابط هشّة البنية، ضعيفة التكوين إلا الرابط الديني.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.