شعار قسم مدونات

كم حذاءً تحتاج؟

blogs أحذية في دولاب

القليل الذي يكفي.. والكثير الذي يلهي.. عبارة تختصر بالنسبة لي ما يسمى حالياً بالمنيماليست لايف ستايل، وهذه الصرعة الجديدة التي تعيد اختراع العجلة. وكأننا لم نعرف في ثقافتنا أي حديث عن الزهد ولا البعد عن البذخ والإسراف ولا الاكتفاء بما يقضي الحاجة… في السنوات الأخيرة مررت بتجربة سفر وتنقل متكررين، في كل مرة نسافر فيها أو ننتقل من بيت لآخر أبدأ في إعادة النظر فيما نمتلكه، ما الذي نحتاجه وما الذي يمكن أن نعيش بدونه.

 

حررتني هذه التجربة كثيراً من غالبية الماديات التي كانت مسيطرة على جزء كبير من وقتي، ولا أعني أننا كنا نهتم بها أو نبحث عنها، على العكس.. ولكن وجودها في حد ذاته كان مصدراً للإلهاء. الكثير من الملابس، الكثير من الأواني، الكثير من المعدات، من الأحذية.. ربما حتى بيت يتسع لأكثر من حاجتنا.

 

الكثير الذي يلهيك هو ذلك الذي يجعلك تمضي وقتاً في الاهتمام به أكبر بكثير من الوقت الذي تقضيه في استخدامه، لأن عندك الكثير من الثياب فأنت تستخدمها بمعدلات كبيرة ليس لأنها تتسخ أو لأنها بحاجة لتغيير، فقط لمجرد أنك تجد أمامك البديل، أنت تستخدم الكثير من الأواني في المطبخ لانها موجودة، بدلاً من أن تغسل ما اتسخ وتعيد استخدامه… وهكذا.

 

الوقت التي تبذله لتكسب مالاً ستنفقه على شراء الحاجيات أو التبذخ في أسلوب حياة بأمور لا داعي لها هو في الحقيقة وقت كان من الممكن أن تقضيه على نفسك أو على عائلتك أو على من يستحق هذا المجهود أو يحتاجه.
الوقت التي تبذله لتكسب مالاً ستنفقه على شراء الحاجيات أو التبذخ في أسلوب حياة بأمور لا داعي لها هو في الحقيقة وقت كان من الممكن أن تقضيه على نفسك أو على عائلتك أو على من يستحق هذا المجهود أو يحتاجه.
 

أعتقد أن جزءاً من الموضوع يتعلق بتصور اجتماعي معين، وتقسيم الطبقات المجتمعية المقيت الذي نعيش فيه، سواءً فيما يتعلق بما نستخدم أو ما نشتري، فنحن إن قرر أحدنا يوماً أن يكتفي بحذاء واحد يرتديه بشكل يومي، لابد أنه سيجد من يستهزئ بمثل هذا السلوك ويطلب منه أن يرحم الحذاء المسكين ويشتري آخر غيره، بغض النظر عن كون الحذاء ملبياً للغرض أم لا، ففكرة أن نرتدي نفس الحذاء، أو أن يكون عندنا عدد محدود من القمصان التي نبدل بينها خلال الأسبوع ، أو حقيبة واحدة تكفينا طوال عام أو عامين، هذه الفكرة ترتبط في مخيلتنا بالقدرة أو عدمها، وليس بالرغبة أو بالحاجة.

 

وقِس على ذلك في كل الأمور، هل ما لديك يكفيك أم لا، هذ هو السؤال المهم، ليست القاعدة أن ما يكفي لشخص يجب أن يكفي كل الناس، ولكن الفكرة فيما يحتاجه حتى يعيش حياته بلا خلل، بعض الناس قد تتطلب أعمالهم مثلاً فوق ما يكفي أشخاص آخرين لتأدية واجباتهم، وهكذا. فالقياس بين الأشخاص باطل، ولكنه المبدأ، ما اللي لو لم تحصل عليه فإنك لن تفتقده، وتستطيع أن تعيش الحياة بدونه.

 

في هذه الأيام تكثر إعلانات حول خدمات أو منتجات بادعاء أنها تجعل الحياة أسهل، أداة خاصة لتقطيع البيض، وأخرى لتقطيع البطيخ، ونوع صابون خاص للفرن وآخر للمغسلة وآخر للأرضيات وإلى آخره.. وكان يكفيك في كل ذلك سكين وعلبة صابون متعدد الاستخدامات، ولكننا ربما نجد إحساساً بالرضا عندما نحس أننا "نبسط" حياتنا بالتعقيد.

 

منذ 3 سنوات مضت قمت بابتياع حذاء رياضي بعد أن وصلت لقناعة بأن الأحذية النسائية العادية وسائل تعذيب لا يمكن أن تكون اختياراً ملائماً لأم لطفلة تتعلم المشي ثم الجري. بقي معي هذا الحذاء طوال هذه السنوات الثلاث، سافرت به 3 مرات بين القاهرة وسيدني، استخدمته كمدرسة في الجامعة، وطالبة دكتوراه، وباحثة في المؤتمرات، وأم في الملاعب، وربة منزل في السوق. بدأ الآن في التهالك وكان علي أن أبتاع غيره يؤدي الغرض. حذاء رياضي جديد أسود أيضاً.. سيبدأ رحلته التي أرجو أن تدوم كما دامت لسابقه.

 

هل استخدمت أحذية أخرى في مناسبات أخرى؟ نعم لقد فعلت، كانت أغلبها أحذية اشتريتها سابقاً أو اضطررت لشرائها للضرورة كحذاء مطر مطاطي مثلاً. لكن المعدل ظل حذاءً واحداً في العام، والاستخدام الأساسي كان ومازال لذلك الوحيد الذي لم يؤثر كوني أرتديه يومياً على حياتي بأي صورة، ولم يقلل من شأني ولا جعلني أفقد قدرتي على العمل.

 

لكل منا الحرية لاختيار طريقة الحياة التي يريد، ولكن بما أننا مسؤولون عنها فربما نود لو نفكر كيف نجعل هذه الحياة أفضل، من خلال الحصول على المزيد من الوقت والقدرة على فعل الجديد من الأشياء

ما حققته هو أنني وفرت الكثير من الوقت والموارد لأستغلها في أمور أخرى أهم من لون حذاء يناسب حقيبة أو غطاء رأس. شيئاً فشيئاً وجدت نفسي أنقل هذه التجربة إلى جوانب أخرى من الحياة. لا أشتري الثياب سوى مرة واحدة في العام وفقط عندما تصبح القديمة غير قادرة على العطاء. 3 قمصان وبنطالان، معطف كل 3 سنوات أو 4، حقيبة كل 3 سنوات إن احتاج الأمر، وهكذا.. قد تعتقدون أن هذا قليل ولكنه في الحقيقة يكفي وزيادة. وأنا لست ربة منزل طوال الوقت، أحتاج الذهاب للجامعة أحيانا بصورة يومية وأحياناً بشكل أقل، أصطحب بناتي إلى الحديقة عدة مرات في الأسبوع وأذهب للسوق مرة أسبوعياً.

 

كل القضية يا أصدقاء أنني انتقلت إلى بيئة يسهل معها تحقيق هذا الهدف، فغالب الأمر أن الجميع يكتفي بمعطف واحد وحقيبة أو انثتين وحذاء معين. ليس الأصل أن يتبذخ الناس في شراء الحاجيات والأدوات التي يمكن الاستغناء عنها، ليس دائماً السبب هو الفقر أو الحاجة ولكنها ببساطة نظرة مختلفة للأمور.

 

قرأت مرة لأحدهم عبارة تقول بأننا عندما ننفق المال فنحن ننفق أعمارنا التي أنفقناها في الحصول عليه، لذلك على المرء أن يفكر ملياً فيما ينفق عمره وأعمار الآخرين الذين عملوا لكي يحصل هو على هذه الموارد. لا نحصل على المال حتى ننفقه ونستمتع به، ولا حتى نعيش اللحظة أو نكرر بأن النقود تذهب وتأتي.. وإن بدت هذه عبارات جميلة الوقع ولكنها خادعة. فالوقت التي تبذله لتكسب مالاً ستنفقه على شراء الحاجيات أو التبذخ في أسلوب حياة بأمور لا داعي لها هو في الحقيقة وقت كان من الممكن أن تقضيه على نفسك أو على عائلتك أو على من يستحق هذا المجهود أو يحتاجه.

 

في النهاية، لكل منا الحرية لاختيار طريقة الحياة التي يريد، ولكن بما أننا مسؤولون عنها فربما نود لو نفكر كيف نجعل هذه الحياة أفضل، لا من خلال الحصول على المزيد من الأشياء ولكن من خلال الحصول على المزيد من الوقت والقدرة على فعل الجديد من الأشياء، عندما توفر وقتك ومواردك فإن ذلك يمنحك فرصة لكي تتمكن من فعل أمور كثيرة كنت تؤجلها لأنك تعتقد بأنها بحاجة لوقت لا تملكه وأموال وموارد لا تحصل عليها، في حين أنك كنت تضيع كل ذلك على قضايا ليست سوى هوامش وكماليات كنت تستطيع التخلي عنها بسهولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.