شعار قسم مدونات

قلب أغرّته اللذة فتورط

blogs الحب

كثيرًا ما نتساءل وتتملّكنَا الحيرة عن شباب ناشئةٍ في الدّعوة، امتلأت قلوبهم أول مقدمهم إليها إيمانًا ومحبّة وأخوّة وحماسة، فما لبثوا فيها بضع سنين، حتّى انطفأ فتيلُ شُعلتهم وبردت حماستهم وتحوّل اختلافهم إلى تعصّب فرّق بينهم، وهذا ما يُترجمُ الانقسامات الحاصلة في الجماعاتِ الإسلاميّة والتشتّتات الحزبيّة في بلدانٍ شتّى وفي فتراتٍ متعاقبة.

وقد يرجِعٌ ذلكَ إلى أنّ القلب الإنسانيّ يشعر بلذة عند تنفيذ ما يعتقده صوابًا، فيشتعلُ حماسُه ويتّقد طمعُه في الأكثر ويشعرُ برغبةٍ جامحةٍ في أن يزيدَ تلك اللذة سريعًا. فينطلِقُ مدفوعًا بجشعِه وعجلته إلى إفراط في تشغيل نفسِه بما يعود باللذة على القلب، تجِدهُ نَهومًا، لا توقِفُه مشقَّة ولا عراقيل، فيبذُل كلّ طاقتِه وجُهده من أجلِ ذلكَ حتّى ينتكسَ وتتعبَ جوارحُه، وينعكس ذلكَ على القلب في صورة مللٍ وسَقم، فيضيق صدرهُ، فلا يتّسعُ لحِلم ولا لرأي مخالفٍ له قد يكون صائبًا ولا لمصلحة غيره في أن تأخذ حقها. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-للأشج -رضي الله عنه-: "إن فيكَ لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فالحلم يحمي الإنسان من الانتصار للنّفس، فيلزم العدل وأما التأني فيمنحه فرصةً للتأمّل، فيزول الالتباس.

وهذا السُّلوك البادر منه قد لا يكونُ بالضّرورة لمَرضٍ في قلبه ولا لطمَعٍ في القيادة وتقلّد المناصبِ، إنّما شعوره بالسّوء والإحباط جعلهُ ينظر لكلّ ما حوله بسلبيّة مطلقة لا تمحيص فيها ولا تمييز، الكلّ في نظره متّهم، مذنب، مقصّر.. لا يهمّ بأيّ تهمةٍ وأيّ ذنبٍ، المُهم أن يجِد هو مشجبًا يعلّقُ عليهِ أغلاطه.

إنّ انتسَاب الدّعوة إلى الإيمَان، يجعلها على سَبيله، تتعرّض لمَا يتعرّض له، فإن كان الإيمَان يزيد وينقص فالدّعوة مثله، تعلو فتصل إلى أوجها وذروتها، اعتقاداً وعملاً، ثمّ تتضاءل فتنحدر مرّة أخرى

وترجعُ هذه الظاهرة في عمل القلوب وطبائعها إلى ما نرى في جوانب العمل الدّعوي الإسلامي من جناية الأخطاء التخطيطية والتنظيميّة في بداية تنشئة أمثال هؤلاء الشباب الدعاة، ويعتقد البعضُ أن أمر تصويبها يحتاج إلى إحصاءات ونقاشاتٍ واسعةٍ، في حينِ أنّ الأمر أبسط من ذلكَ لمن عايشَ الوضع عن كثب، إذ أنّ طريقة التصويب بسيطة وليست ببعيدةٍ عنّا ولا بنائية، تتمثّل فقط في: معرفة سياسة القلوب.

إنّ انتسَاب هذه الدّعوة إلى الإيمَان، يجعلها على سَبيله، تتعرّض لمَا يتعرّض له، فإن كان الإيمَان يزيد وينقص فالدّعوة مثله، تعلو فتصل إلى أوجها وذروتها، اعتقاداً وعملاً، ثمّ تتضاءل فتنحدر مرّة أخرى، والفائز من لا يغالي عند التعالي، ولا يسرف عند الهبوط، ويبتغي بين ذلك سبيلا وهو هدي السنّة النبويّة، قال عليه الصّلاة والسّلام: "لكل عملٍ شره، ولكل شرةٍ فترة، فمن كانت فترته إلى سنّتي فقد اهتدى"، ويقصد (بالشرة) هُنا بلوغ ذروة الجد والإتقان، وأمّا (الفترة) فهي الفتور والكسل من بعد الجدّ والاجتهاد.

من هنا كان فحص القلبِ واجبًا لمَعرفة ما خَالطه وعكّر صفواه، أخلاطٌ مرضيّة تغر وتوهم في غير موضِعِ الرّجاء، فتمنح الصورة وتحجبُ الحقيقة، وتسرقُ منّا هويّة الإنتساب إلى الصفّ الواحد، يقول الإمام أحمد الرّاشد: "إن قرة عين الدّعاة برؤية زمرة القلب الواحد، والانغماس فيها، تجر جرًا إلى تلمس ما فعله ضعف التربية بالأمس من فتن ولدت ذهولاً عن قواعد التعامل الإيماني، وجفل خلالها الأنصار".

فالمُتساقطون على طريقِ الدّعوة والمُتشرذمون عنّا، أفلتناهُم قبل أن يفلتونَا، أفلتناهُم منذُ البداية نتيجة أخطائنَا في تنشئة الفرد والتربية الدعويّة المغلوطة، فبات كلّ من يبرع في (الخطابة) يرشّح للدّعوة ويجدُ نفسه محمولاً لتسلّم مسؤوليّةٍ قد لا يكونُ أهلاً لها، ممّا قد يؤدّي إلى إخفاقه وبالتّالي يخسرُ نفسه ويصيبهُ الإحباط نتيجة لردود الفعل النفسيّة التي تُصيبه، والقيادة هي المسؤولة عن هذا بطريقةٍ أو بأخرى فهي رأس القافلة وطليعة الرّكب وتأثيرها على الصفّ بليغٌ وعميق.

undefined

إنّ العلاقة بين الدّعوة و الدّاعية ينبغي أن تكون واضحةً من أوّلٍ يومٍ له، فلِيتقلّد الفردُ المناصب ويحمل على عاتقه هذا الكمّ الهائل من المسؤوليّات يجب أن يكونَ قبل كلّ شيء في إيمانه أثبت من الرّواسي، و في فهمه أعمقَ من اللّجج، وفي صبره أقوى من النّكبات، ملمًّا كلّ الإلمام بالشؤون الفكريّة والتنظيمية للدّعوة، مواكبًا لنشاطاتها وأعمالها، يعرف نفسه ويدركُ مواقع الضّعفِ والقوّة فيها، دارسًا لحياة نماذج وأعلام الحركة الإسلاميّة، له نظرة ثاقبة بها يستطيع وضع تقديرٍ سريعٍ وسليم لأيّ موقفٍ قد يعترضهُ في الطّريق، كما ينبغي أن يتولّد لديه شعورٌ ذاتيّ بالمسؤوليّة في العمل.

ولمّا كانت الحركة الإسلامية (أو أيّ حركة) غير قادرة على أن تبلغ المستوى التنظيمي المطلوب ما لم يتوفّر عنصر أساسي وهو عنصر الطّاعة وقد بلغ عندها ذروة القوّة والكمال، وهنا يجب الإشارة أن الطّاعة تكون فيما أجازه الشّرع فقط وغير ذلكَ وجب التمرّد والعصيان. فعلى الفرد منّا أن يعوّد نفسه على الطّاعة والامتثال لأمر القيادة وطرد وسوسات الكبر عن نفسه فالنّفوس عاتية، يتعسّر قيادُها كما يصعُبُ مقادُها، والكبر يقصم الظهور.

اليقين كلّ اليقين أن قلوب الدّعاة تستوي وتثبتُ أقدامُهم، وتستقيم حياتهم بقدرِ ما يتّسع اطلاعهم على القرآن وكذا بعمقِ فهمهم له وبقدر تفاعلهم مع الدّين وتشبّعهم به

لذا وجب علينا أن نراجعَ أنفسنا فنستدركَ النّقص الذي يعترينا بجولة إيمانيّة نطهّر بها عقائدنا ونزيد إيماننا وعبادتنا فنسمو بذواتنا ونثبّت قلوبنا، فنجرّد دعوتنا على أساسٍ يزهد فيها معنا الطامع والمستعجل، ومتقلب القلب.

وما ثبت الدّاعية على طريق الدّعوة وازداد بذلاً وإيثارًا إلاّ لاجتماع الصّفات التي ذكرتها آنفًا فيه، ولاكتمال معنى الوفاء والحريّة في قلبه، ومراعاة الوداد، يقول الإمام الشافعي: "الحر من راعى وداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة". فهذه الدّعوة علّمتنا دهرًا وفي أحضانِها ترعرعنَا، علّمتنا بدل اللفظة ما يجفّ في ذكرهِ المدادُ، فمن كان حرًّا راعى وِدادها وأخلص وابتعد عن فتنٍ تتربّصُ بها.

هذه هي جوانب شخصية الدّاعية الحق وهويته، غيرة على دين الله، وحماسة دفاقة، إقبال حين إدبار، ووفاء حين غدر، ورحمة بالخلق وحرقة على الدّعوة تجعله يمارسها أينما كان، ومعين حين إنكار، يلقي بالكلمة ليعلّم وينصح، ويوعظ الوسنان، فرب كلمة يلقيها يستصغرها، فتؤتي طيبها وتُنقذ وتُثمر، ولا يهمّه إن كان آخر يومٍ له هو ذاك الذي يفني فيه عمره ويبذل أعزّ ما يملكُ في سبيلها، بل إنّ الداعية الحق هو الذي يرى في اليوم الذي يتخلّى فيه عن دعوته يومًا مظلمًا قاتمًا، لأنّه يُدركُ جيدًا أنّ بسقوطه يتعدّى ضرره إلى غيره فيثقلُ كاهل الدّعوة، و يصنعُ فيهَا شرخًا و تصدعًا في بنية العملِ الإسلامي. ثمّ أنّه لا يبالي في بذله للدّعوة أن جهل اسمه الجاهلون ولا أن نكر جهده النّاكرون أو ذهل عن نسبه الناظرون، طالما أنه وهبَ نفسهُ للدّعوة فأخلص ذلك لله وحده، فشمخ على حضيض من أغرته الدّنيا وحظوظها.

واليقين كلّ اليقين أن قلوب الدّعاة تستوي وتثبتُ أقدامُهم، وتستقيم حياتهم بقدرِ ما يتّسع اطلاعهم على القرآن وكذا بعمقِ فهمهم له وبقدر تفاعلهم مع الدّين وتشبّعهم به، وصدق رسول الله حين قال: "من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.