شعار قسم مدونات

داعش المظلومة: حالة التراث المعماري والعمراني في بلاد العرب

blogs - آثار

في صباح الثاني من شهر مارس عام 2001، استيقظ العالم على خبر بدء تفجير حركة طالبان لتماثيل بوذا التاريخية المحفورة في جبال وادي باميان في وسط أفغانستان. صرخ العالم أنظروا ماذا يفعل المتطرفون؟ وأنتفض خبراء منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) يعلنون حزنهم وصدمتهم ثم أصدروا قراراهم عام 2003 باعتبار الموقع أحد مواقع اليونسكو للتراث العالمي.

وفي عام 2015 دمرت داعش معابد رومانية وتماثيل تاريخية في مدينة تدمر السورية، وهي التصرفات التي وصفتها أيضا منظمة اليونسكو بأنها جريمة حرب، واستمرت داعش في جريمتها لتدمير المدينة التي تعتبر متحفاً تاريخياً يحتوي على طبقات تاريخية لحضارات متعددة مرت بالمكان وتركت بصماتها وعلاماتها.
 

عندما تبحث عن المبررات التي صاغتها حركة طالبان أو داعش لتدمير هذه المواقع التراثية، يدهشك الاتفاق حول أنها تتنافى مع العقيدة أو قيم المجتمع. هنا تتبلور إشكالية شديدة الأهمية حول مشروعية تحديد ما هو التراثي، التاريخي، الجدير بالحفاظ، المعبر عن المجتمع، المُكون للهوية؟ من هو المؤهل لتحديد المعايير التي على أساسها نقبل أن يكون جزء من تاريخنا يستحق الحفاظ وجزء آخر يستحق الهدم والإزالة؟

كل تراث ما قبل حقبة النفط تم إزالته وبصورة مشروعة ترعاها الحكومات وتم استبداله بمشروعات حداثية مطورة أو على الأقل وصفت بذلك

إن قيمة تاريخنا وماضينا هي في الواقع قراءة معاصرة آنية نقوم بها الآن، وبالتالي تتدخل الكثير من المؤثرات الحالية في تحديد قيمة التاريخ القديم. وكما يقول فرانشيسكو باندارين القيادي والخبير في منظمة اليونسكو، فإن الماضي هو قراءة معاصرة جديدة لما حدث بالفعل. أو تأمل طرح المؤرخة البارزة جانيت ابو لغد وهي تصف التاريخ بأنه وليد اللحظة المعاصرة وليس فقط وليد الماضي.

في الواقع فإن التراث هو قيمة تتدخل التركيبة المجتمعية والقيمية المعاصرة في صياغته وتحديده والحفاظ عليه والدفاع عنه (Socially Constructed) إذن عنصر الزمن هنا شديد الأهمية حيث يبدو أن القيم تتغير مع الزمن. وكما يكتب البديع جابرييل ماركيز عن أخلاقيات الزمن، فقد يكون من الجائز أن ما يُهدم الآن سنبكي عليه لاحقا وقد يجوز أن من ندعي أهميته الآن سنكون من المرحبين بهدمه في المستقبل.

هل تجد هذا الطرح مربكاً؟ إذن دعني أقدم لكم أمثلة صارخة من سياقنا العربي تجعلك تتيقن أن داعش مظلومة إذا ما قورنت في إجرامها تجاه التراث المعماري والعمراني بما فعلته وتفعله مدن ودول ومجتمعات وأنظمة في عالمنا العربي. تأمل مثلا كل دول الخليج بلا استثناء، وكيف دفعتها عوائد النفط الغير مسبوقة في طفرتها الأولى، إلى التحرر من كل القديم والاندفاع إلى نمط ما اعتقدوا أنه حياة عصرية تبدأ بالتخلص من كل فصول الماضي.

هذا المفهوم والذي دعمه الخبراء الغربيون، أدى إلى التخلص من أحياء بل أجزاء كاملة من مدن الخليج القديمة حتى وصلنا إلى الحالة التي كان دخول البلدوزر لهدم حي خليجي قديم في دبي أو أبوظبي أو جدة أو الدوحة أو المنامة هو مناسبة للاحتفال ببدء التطوير والتحديث وانتهاء حقبة الفقر والقديم البائس. فجأة كل تراث ما قبل حقبة النفط تم إزالته وبصورة مشروعة ترعاها الحكومات وتم استبداله بمشروعات حداثية مطورة أو على الأقل وصفت بذلك.

ثم كانت الموجة الثانية من الهدم والإزالة في نهايات الثمانينات وبداية التسعينات حيث بدأ التخلص من المشروعات الحداثية لفتح الطريق لتقليد مدن غربية بالمشروعات المتعولمة وناطحات السحاب الزجاجية ومجمعات المولات التجارية العملاقة وأصبحت دبي هي النموذج لأنها تقلد ناطحات سحاب شيكاغو وأبراج فنادق لاس فيجاس ببراعة.

دعنا ننتقل من مدن الخليج إلى المدينة العربية الأكثر أهمية في عالمنا العربي، القاهرة، مُلهمة الأدباء والشعراء وسَاحرة الرحالة والمستشرقين. مع كل النضج الثقافي والوعي التاريخي وفهم القيمة التراثية لحقبات القاهرة التاريخية، فإن المرء يندهش من كم المباني والمناطق التي هُدمت ومازالت تُهدم حتى هذه اللحظة.

تحرك من مصر صوب العراق مهد الحضارة وتأمل ما يحدث في مدنها، ودرجة التزييف للوعي التي نندفع بسببها للاحتفال بتحرير مدينة الموصل بينما الواقع أن المدينة خسرت البشر والحجر
تحرك من مصر صوب العراق مهد الحضارة وتأمل ما يحدث في مدنها، ودرجة التزييف للوعي التي نندفع بسببها للاحتفال بتحرير مدينة الموصل بينما الواقع أن المدينة خسرت البشر والحجر

إن كم القصور والمساكن والمساجد والوكالات والمباني التاريخية في سياق القاهرة العمراني، والتي هُدمت لكي تُستغل أراضيها في مشروعات تجارية فجة رخيصة الشكل والمضمون، يفجر آلاما مماثلة لكل ما سببته حركة طالبان وداعش في أفعالهم المجرمة تجاه النتاج الحضاري الإنساني. ولكننا لا نثير قضية ولا ندعو اليونسكو للشجب والإدانة لأن الفاعل رسمي حكومي.

بل تأمل ما حدث في سياق ميدان التحرير وكيف هُدم مبنى مقر الحزب الوطني. إن قرار القضاء على المبنى يمكن تفسيره بأنه امتداد واضح لسياسة تفريغ ميدان التحرير وسياقه، حيث إن المبنى يمثّل فصلاً من تاريخ مصر النضالي والثوري يجب محوه، تبعًا لأطروحة النظام الحاكم، لأن المبنى فصل ثوري، والثورة ضد مبادئ الاستقرار الزائف الذي سوّقوا له بامتياز ولعقود طويلة.

ولا يدرك هذا الفريق، بأطماعه السياسية المحدودة، أن الذاكرة الجمعية للشعوب تجسدها المباني العامة حتى لو شُيدت في حقب تغيرت أو تبدلت، أو حتى لو ثار الناس عليها، وأن السعادة بالهدم هي سعادة الهزيمة وتزييف التاريخ. لو تركت القاهرة وتحركت إلى مدن مصرية أخرى فسيؤلمك كم المباني والمناطق التي هدمت في بورسعيد ورشيد والمنصورة والفيوم وقنا وأسيوط وكل محافظات مصر تحت اشراف حكومي بامتياز.

إذا لم تكن قد كونت بعد قناعة على أن أنظمة وحكومات عربية تفعل بتراثها ما هو أكثر جرماً من أفعال داعش فيجب أن تنظر جنوبا إلى اليمن السعيد

تحرك من مصر صوب العراق مهد الحضارة وتأمل ما يحدث في مدنها، ودرجة التزييف للوعي التي نندفع بسببها للاحتفال بتحرير مدينة الموصل بينما الواقع أن المدينة خسرت البشر والحجر، فقد أجُبر سكانها على الرحيل، وسقطت مآذنها وهُدمت قبابها. وعندما تصرخ متألماً يكون الرد لا تحزن فسنبدأ إعادة الإعمار فوراً.

ومن العراق الأسد الجريح إلى سوريا الثائرة البطلة حيث يصدمك ما فعله النظام الحاكم المستبد بمدينة من أكثر مدن العالم تعبير عن عمارة وعمران المجتمعات الإسلامية، حلب الرائعة التي خرجت منها أول مظاهرة مناهضة لنظام الأسد وحزب البعث فيها في "جمعة العزة" بتاريخ 25 مارس 2011. وتتحسر عندما تطلع على أحدث إصدارات تقييم (اليونسكو) لحجم الأضرار في المواقع الأثرية في مدينة حلب القديمة الذي يوثق أن ثلث المدينة تم تدميره بالكامل وأن ثلثي المدينة قد تضرر بشكل كبير.

إذا لم تكن قد كونت بعد قناعة على أن أنظمة وحكومات عربية تفعل بتراثها ما هو أكثر جرماً من أفعال داعش فيجب أن تنظر جنوبا إلى اليمن السعيد الذي لم تنته فقط حملة إعادة الأمل المزعومة بانتشار وباء الكوليرا بين أطفاله وموت ألفين منهم بسبب المرض، ولكن أيضا تراثه المعماري والعمراني يُسحق بطائرات عاصفة الحزم وقذائف إعادة الأمل!

يمكن أن نستكمل بعرض عشرات بل مئات من الأمثلة التي هُدم فيها التراث المعماري والعمراني مع سبق الإصرار والترصد في مدننا العربية وأجُبرنا على أن نعتقد أنه رصيد متخلف بلا قيمة ولا يستحق الحفاظ، ثم أيقظونا لاحقاً وقالوا لنا أين مباني وشوارع وحكايات الزمن الجميل؟ أحيانا كثيرة عندما استغرق في تأمل حال مدننا العربية أجد نفسي أتساءل: من يحمي التراث من حماة التراث؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.